سليم جاي* برحيل محمد لفتح فقدنا كاتباً مغربياً كبيراً: فرنسيَ اللغة، مغربيَ الوجدان، لكن بنفَس إبداعي عالمي بلا حدود. ذات مرة، قال لي الكاتب الجزائري الكبير محمد ديب إن العزيز محمد خير الدين، الكاتب المغربي الشهير باسمه والمجهول بكتاباته هو «أكبر كاتب بيننا». ورغم أنني واعٍ لقيمة حكم الراحل محمد ديب وأهميته، لكنّني شبه متأكد من أنّه لو قرأ محمد لفتح لكان له رأي آخر. أقولها من دون تردد: لفتح هو جيمس جويس المغربي، وعوالمه نسخة فريدة من عوالم «أناس من دبلن»... لكنّها، نسخة طبق الأصل من عوالم الدار البيضاء حيث عاش مدةً طويلةً وبلدة سطات مسقط رأسه. لقد كان لفتح صاحب أسلوب بارع ودقيق. صائغ من طراز رفيع يمتلك موهبة ذهبية نادرة تتيح له سبك معدن الكلمات. موهبة تلتقط انكسارات المهزومين والمهمّشين والمتمردين والمحبَطين. في نصوصه، نحسّ بنسغ السلالات التي تأبى أن تعترف بحقيقتها، سلالاتٌ شرهة مفعمة بالألم والحياة.
عندما اكتشفت رواية «آنسات نوميديا»عام 1992 ذُهِلت وخجلتُ من ردّ فعلي: لأنني بكل بساطة شعرت بالغيرة! ولا أخفيكم بأنّ هذا الإحساس ورجّتَهُ المزعجة جعلاني أدافع بحماسة عن هذا الكاتب وحقّه في الانتشار والقراءة. إذ إنّ جملة لفتح، كانت ولا تزال، جملة ساحرة ذات جاذبية آسرة. جملة تقول الواقع. تقول ما نحسه، ما نعرفه، وما ينتابنا من أحلام وكوابيس.
من ذا الذي وصف جحيم زنزانة مكتظة أحسن من محمد لفتح؟ مَن قرّبنا من أحاسيس العاهرات والقوادين أكثر منه؟ من ذا الذي التقط بدقة آلام عائلةٍ فقدت ابنها للتو؟ لا أحد فعل ذلك أحسن منه في الأدب المغربي المعاصر، وهذا السبق سيبقى بحوزته إلى أجل بعيد، حسب اعتقادي.
أعمال لفتح، وما تعكسه من أخلاق يمتزج فيها الرجل بكتابته، أذهلتني ولا تزال. وأنا فخور لكوني أسهمت في نشر أعماله عندما أقنعتُ جو آكيم فيدال وكوليت لوندريشو ــــ ناشرَيْ دار «لا ديفيرانس» ــــ بإصدار رواياته، وهذا ما فعلاه بمهنية وصدر رحب، في الوقت الذي كانت فيه دور النشر الفرنكفونية في الدار البيضاء تواجه مخطوطاته برفض مهين.
في أعمال لفتح، ينصهر بؤس الاستلاب في بوتقة يخرج منها الإبداع منتصراً على كل العقبات. ميزة لفتح أنه يُبَسِّط الجحيم الشخصي والجحيم الاجتماعي، مثلما نصفّي الماء العكر. قد تنفعنا كلمات الشاعر الفرنسي بول ايلوار لتلخيص منهاج لفتح، في العيش كما في الكتابة: «اللمسة والثقة للبقاء على قيد الحياة».
لهذا، عزيزي محمد، دعني، رغم دموعي، ألمس جبهتكَ الماسية.
* كاتب مغربي مقيم في باريس