نوال العلي تبعوا أثر الفراشة، هؤلاء الأنا، الفراشة ظنّت نفسها شاعراً تمكّن أخيراً من أن يفضّ شرنقة اللغة ويطير بجناحين. كان حلمه ضده، يقتل شاعره حين يبلغه، الحلم الذي احتشدت فيه أنا النص والشاعر وفلسطين والحبيبة. كل هذه مفقودات. والمفقود موجود حتماً، لكن خارج الذات؛ في منطقة اشتباكها مع العالم بوصفه ممارسة شعرية درويشية قابلة للتمثّل وابتكار وجود مجازي يمحق غيابها. ألم يكن الوطن في أمسّ الحاجة إلى براهين شعرية؟ والشاعر؟ ألا يحتاج إلى برهانه؟
لا بد من شعر إذاً، لا بد من نثر كذلك يصهر المفرد في الجمع، ويحقق لكليهما كياناً شعرياً خارج المنفى وفي صميم الداخل.
في عام 1974 كتب درويش «لم أكن حاضراً، لم أكن غائباً، كنت بين الحضور وبين الغياب». المقطع من قصيدة «كان موتي بطيئاً» المنشورة في «محاولة رقم 7» وفيها تمظهرات «الأنا» التي وسمت شعرية درويش بكثرتها، وجعلته الغائب الحاضر لشدة تعددها. ومع تقدم الشاعر في العمر، بات التعدد يختزل شيئاً فشيئاً، كأننا أمام درويش آخر، بودّه لو يقيّف أناه من جديد، لو يخسر الكثير من الوزن: «في الزحام امتلأت بمرآة نفسي وأسئلتي » (قصيدة «سنونو التتار»)
لكن مجاز الحضور والغياب الذي بدأ منذ السبعينيات بلغ ذروته في «في حضرة الغياب»، وكأن الوقت لم يمض على جرح درويش، وإن كنا كعشاق لقصيدته نسأل: ما الغياب في حضرة محمود؟ فقد كانت السبل تضيق بشاعرها الذي يسأل هل ما زال الفن في حاجة إلى براهين وطنية؟
يعلن الشاعر في «كان موتي بطيئاً»، «باسمها أتراجع عن حلمها»، باسم من؟ باسم أناه الجمعية، والشعرية، التي ضاع دمها بين الشاعر والوطن والنص. وهي التي إن ضاعت وُجدت «ضاع اسمها بيننا فالتقينا»؟ ومن دون ذلك الفقد، ما كان يمكن للعثور أن يكون «مذ وجدت القصيدة شرّدت نفسي». لقد فرقت حشود الأنا بينه وبين ذاته، كان على قصيدته أن تحمل صلبانها فهو حامل الاسم، أو شاعر الحلم. لكنه يتألم «ما كنت جنديّ هذا المكان، وثوريّ هذا الزمان».
كانت قصيدته القاموس الجمالي الفلسطيني، وقلما التصق مكان بشاعر، مثلما تعلّقت فلسطين بدرويش«كنت أحلمها، واسمها يتضاءل. كانت تسمى خلايا دمي».
رجع درويش إلى مدينة ستخبره كيف يحمل الحلم سيفاً ويقتل شاعره، عاد «نافذة على جهتين/ أنسى من أكون لكي أكون جماعة في واحد».
لنر كيف تجتمع أنا الحبيبة بمدينة المنفى ومدينة الحلم على الشاعر «قبّلت خنجرك الحلو/ ثم احتميت بكفّيك/ أن تقتليني/ وأن توقفيني عن الموت/ أشعر أني أموت/ فكوني امرأة/ وكوني مدينة». ثم يختلط شكل المدينة باسم الشاعر، فلا يعود يذكر أيّ منهما «ينادونني حسب الطقس والأمزجة/ لقد سقط اسمي بين تفاصيل تلك المدينة».
حملت قصيدة درويش كل هذه النقائض، أقصته لغته ومعجزته عن نفسه، جعلته هامشاً مقابل الكل، ثم أعادته رمزاً لذاته،وذوّبته في مجازاتها من جديد. كانت القصيده تملكه وتقسّمه في ما تملك. وكذلك فعل الفقدان بدرويش، نفاه من القصيدة واحتل مكانه فيها، ليكتمل.