يروي المخرج السوري آخر لقاء جمعه بمحمود درويش في منزل الراحل في عمان، وكيف راح الشاعر يتدرّب على المشي بعكّازين، بعدما قال له الأطباء إنّه قد يصاب بالشلل نتيجة العملية الجراحية... لكن يبدو أنّ خطّة القدر كانت في مكان آخر
محمد شاهين *
كل مَن عرف محمود درويش عن قرب، يدرك جيداً أنّ صداقته ليست كالصداقات العادية التي تنشأ بين بني البشر وتؤلف بين قلوبهم في مناسبات مألوفة ومعروفة عند الغالبية العظمى. كلما التقيت محمود، شعرتُ بأنني ألتقي أسطورة في الحب والجمال والصداقة والتسامح. يشدّك حديثه في أي موضوع، بسبب ما فيه من تلقائية وعمق وبساطة، يعيد إليك سحر الراوي في الزمن البدائي، لكنّه يتفوق عليه بما في سرده من أفكار وقضايا نعايشها وتعايشنا. حديثه مثل شعره ونثره يحمل رسالة اللغة والفكر، إيمانه بقدسية الكلمة يملي عليك رسالة الكلمة بدايةً ونهايةً. ومجمل القول إنّ خطاب محمود درويش شعراً ونثراً وشفاهاً يتكوّن من تقاطع بين الفكر والعاطفة أحدهما يشكّل الآخر. وإذا كان ديكارت يقول: أنا أفكر فأنا موجود، فإنّ محمود درويش يعتقد: أنا أفكّر وأشعر في آن، فأنا موجود.
وفي اعتقادي أنّ هذه الثنائية تكوّن مرتكزاً رئيساً في شعره، إذ يجعلك تفكَّر وتشعر في آن وأنت تقرأ شعره، فلا هو الكلاسيكي الذي يقيده العقل، ولا هو الرومانسي الذي تبع سجين العاطفة، إذ إنّه يزاوج بين العالمين من دون اختزال أحدهما على حساب الآخر.
فور ظهور ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد»، عرضتُ على شاعرنا ترجمته ومن حسن حظي أنّ الترجمة لاقت قبولاً عنده، ما شجعني على أن أكرّر التجربة وأعرض عليه ترجمة «في حضرة الغياب». في كلتا الحالتين، كنتُ أطلب منه مراجعة الترجمة وقد أدهشني ما لديه من قوة ملاحظة ودقة وإتقان للّغة الأجنبية من ترقيمها إلى ظلال المعاني في مفرداتها وتراكيبها. ولا يصر على ما يراه صحيحاً البتة بل إنّه يؤثر عدم التصحيح على فرض رأيه الصحيح. ويأسرك بأدبه وتسامحه، وقد كتب لي الناشر البريطاني رسالة أطلعته عليها في آخر لقاء يقول فيها إنّه سينشر ديواناً يظل مفخرة لمحمود درويش وجمهور محمود درويش.
وبهذه المناسبة، فإني أود القول إنّ محمود درويش لا يعبأ كثيراً بنقل شعره إلى أي لغة، وإنّه متحرر تماماً من عقدة «الخواجا»، ولا أعتقد أنّه طلب في يوم من الأيام من أحد أن يترجمه، بل إنّ الترجمة تتم دائماً بطلب من المترجم لا بعرض من الشاعر. ثقته بالعربية تغنيه عن الترجمة التي ينظر إليها كأمر عارض ليس في أجندته أن يقفز إلى الكونية متخطياً هوية المحلية العربية.
ما يبعث على الحزن الشديد أنّ محمود درويش رحل في عز العطاء. «أسوأ شيء في الحياة العقم، أي التوقف عن العطاء» قال محمود درويش في لقائنا قبل الأخير (فيصل دراج وأنا) به. وقال أيضاً أمامنا في اللقاء نفسه «لو أتوقف عن الكتابة فربما يتوقف قلبي». هنا طبعاً، تكمن سخرية القدر الذي حوّل الفرضية إلى سياق فعلي معكوس. والسؤال الذي يظل قائماً إلى الأبد من دون توافر إجابة عنه هو أي إنجاز كان يمكن أن يصلنا لو لم يتوقف قلبه قبل الأوان!
تحدث إلينا عن بعض مشاريعه التي لا سبيل لذكرها هنا. وهو السؤال نفسه الذي يطرحه الناس بشأن عظماء الشعراء أمثال كيتس وشيللي وكوليردج الذين عصف بهم الموت قبل الأوان.
مع كل هذا، كان محمود درويش لا يخشى الموت. في الزيارة قبل الأخيرة، ذكر أنّه يخشى أن يعيش مشلولاً، وأنّه أوصى الأطباء أن يقتلوه إذا تأكدوا أنه سيعيش مشلولاً، لكنّهم أجابوه أنّ هذا الأمر مخالف للقانون في بلدان مثل فرنسا وأميركا، وأنّه قانوني في بلدان مثل بلجيكا. أضاف أيضاً إنّه أمضى وقتاً يتدرب على الإقامة في البيت يمشي على عصوَين لكنّه لم ينجح، ما جعله يؤكد لنفسه أنّ الموت أفضل من العيش مشلولاً. يبدو أنّ القدر كان صاحب الاختيار.
هاتفته أكثر من مرة عندما كان في رام الله ينتظر الفيزا لأميركا. وفي آخر مهاتفة، أخبرني أنّه حصل على الفيزا في ذلك اليوم، وأنّه سيكون في عمان يوم الجمعة. والمعروف أنّ حصوله على الفيزا استغرق زهاء شهرين. تذكّرت على الفور تأخّر وصول الدواء إلى حسين البرغوثي عبر الجسر بسبب السلطات الإسرائيلية. هل تدرج هذه التصرفات في لائحة حقوق الإنسان؟ أي إنسان وأي حقوق؟ قال محمود قبل سفره إلى رام الله للحصول على الفيزا إنّه يحمل لغماً قابلاً للانفجار في أي لحظة. طبعاً هو يردّد ما قاله له الأطباء، وذلك بسبب ازدياد تضخم الأورطيّ. يمكننا أن نتصوّر شعور محمود وهو بهذه الحالة ينتظر الفيزا (وقد نُمي أن كوندوليزا رايس تدخّلت في الموضوع). المهم لا بد من أنّ محمود كان يشعر بأنّ عدّاد الأورطيّ كان في تنازل، لكن صبره الأسطوري على جميع أنواع الشدائد، جعله يصمد صابراً. وفي هذا السياق، أتذكر ما قاله أدموند ليش (من أشهر علماء الأنثروبولوجيا في القرن العشرين) إنه لا يوجد تاريخ يعيد نفسه، كما هو الاعتقاد السائد، بل يوجد سلوك يعيد تكرار نفسه.... ويقصد ليش من ذلك أن يعطي القوس لباريها أي إنّه ينقل مسؤولية ما يحدث إلى البشر، بدلاً من تركها مرهونةً بزمن (تاريخ) خارج إرادة البشر، أي إنّ الذي منع وصول الدواء إلى حسين برغوثي هو الذي كان سبباً في تأخير الفيزا. ولا بد من أنّ ليش هنا يقصد أن نكفّ عن تحميل التاريخ والقضاء والقدر والزمن أكثر من اللازم. وفي هذا السياق أيضاً، أستذكر ما قاله إدوارد سعيد أمامي قبل عبور عرفات إلى الضفة، أو على وجه التحديد إلى غزة وأريحا. سألت إدوارد عندما التقيته هنا في عمان ماذا تود أن تقول لعرفات وهو في طريقه إلى مملكة غزة وأريحا؟ فأجاب: ليته يعلم أنّ الإمبراطورية من طبعها ومن أيديولوجيتها ألا تعطي، إنّها تأخذ بل إن أيديولوجيتها صناعة الموت ليس شنقاً أو رمياً بالرصاص بل بأساليب متنوعة، تتنوع الأسباب والموت واحد عندها.
حضر محمود إلى عمان يوم الجمعة، وزرته في صحبة فيصل دراج يوم السبت، كان منشرح الصدر وتبدو عليه علامات الراحة الجسدية على الأقل. كنت قد أحضرتُ معي شيئاً من العنب وبعض ثمار حديقتي، وفي كل مرة كنت أفعل ذلك، كان يتغزّل بعنب الخليل، وكنت قد أخبرته سابقاً أنّ أشجار الكرمة حول بيتي هي أصلاً من أغراس عنب الخليل. ذكر لنا أنّه تناول الكثير من عنب الخليل أثناء إقامته في رام الله. وكيف تميِّز عنب الخليل عن غيره يا محمود؟ كان سؤالي. «دائماً أبدأ بالسؤال عن المنبت، إذا وصل إلي العنب من غير أصحابه. لكنّي أحكم عليه من طعمه المميز. إنه يسمو على كل شعر قيل فيه».
ودّعناه فيصل وأنا، وكان في أحسن حال... كان من الواضح أنّ معنوياته عالية. بعد يومين، هاتفته معتقداً أنه وصل أميركا وإذا به يجيب بأنّه ما زال في باريس، وسيغادرها إلى نيويورك بعد ساعات. كان صوته أشبه بنور خافت، اختفت منه المعنويات العالية التي ودّعناه بها في عمان. قلت لنفسي ربما الغربة والمنفى يغيّران من درجة المعنوية، أو ربما شعور غامض مسبق بالنهاية أو ربما... سأعود إلى تأويل آخر لاحقاً.
* مخرج سوري