إيحاءات جريئة في موسم الصيف المصريالقاهرة ـــ محمد خير
الإيرادات المرتفعة لفيلم «H دبور» حالياً في الصالات المصرية، من بطولة أحمد مكي، لم تنتج عن مستوى راق للفيلم... بل عن تلميحات وألفاظ تضمّنتها اللقطات الترويجية للشريط. ما أثار دهشة بعض المواقبين: «كيف مرّ الفيلم من الرقابة؟». أما الآخرون فلم يتساءلوا، بل اندفعوا لحضور الفيلم ولم يجدوا فيه أكثر مما وجدوه في الدعاية. إلا أنّ هذه الحادثة وغيرها حملت إشارات دالة عن تغيير لحِق بطبيعة السينما المصرية في أهم مواسمها: الصيف.
بالسرعة نفسها التي وقعت بها السينما المصرية في دائرتي «الكوميديا» و«السينما النظيفة»، تبدو في موسمها الصيفي الذي ينتهي خلال أيام مع قدوم شهر رمضان، في رحلة عودة صريحة في الاتجاه المعاكس مع سبق إصرار وترصد، وبقيادة بعض الذين كانوا رموز المرحلة السابقة. لمح هؤلاء التغير التدريجي في مزاج الجمهور، فلحقوا به وسبقوه أحياناً إلى أكثر مما كان يُتوقع من أفلام الصيف «الخفيفة» تقليدياً. بينما وقف آخرون في مكانهم خائفين من التغيير، فعاقبهم الجمهور وحصّلوا إيرادات أدنى من الفترة نفسها في الأعوام السابقةلم تكن كأس أوروبا لكرة القدم وحدها التي اختصرت موسم القاهرة الصيفي، فاقتراب شهر رمضان حكم باختتام الموسم عند نهاية هذا الشهر، وبين هذه وذاك، أولمبياد بكين الذي اجتذب شريحة لا بأس بها من جمهور الشباب. مع ذلك، فالأسابيع القليلة التي انفرد بها الموسم، اجتذبت أعداداً ضخمة من المتفرجين الذين غصت بهم الصالات، فلم تتأثر الإيرادات بالصورة التي كان يتخوّف منها المنتجون لدى قياس مدى نجاح أفلام الموسم القاهري.
لم يكن في الحسبان انتظار فيلم «إتش دبور» الذي حصل فيه أحمد مكي على بطولته الأولى. شخصية «هيثم دبور» التي قدّمها في الفيلم هي من أشهر شخصيات مسلسل الـ«سيت كوم» «تامر وشوقية» وبأداء الممثل نفسه الذي قدمها مرة أخرى في فيلم عادل إمام «مرجان أحمد مرجان» العام الماضي. علماً بأنّ مكي كانت له تجربة في الإخراج السينمائي هي فيلم «الحاسة السابعة»، التجربة الجيدة التي رافقَها سوء الحظ في شباك التذاكر.
لدى عرض اللقطات الترويجية بـ«إتش دبور» (إخراج أحمد الجندي)، فوجئ الجمهور بثلاث «إفيهات» (تأثيرات) من النوع الذي يُعدّ خارجاً في نظر الرقابة المصرية: الأول يستخدم شيفرة لفظية معروفة ليعبّر عن صوت يرمز للاستنكار في الثقافة الشعبية. والثاني يستعير من الأفلام الأميركية «سبّة» بذيئة عادة ما تحوّلها الترجمة العربية إلى «الوغد»! أما ثالث الإشارات فهي عن سلسلة مطاعم لبيع الفطائر اسمها «خد فطيرك»! وهو اسم تنقصه نقطة واحدة ليتحوّل إلى سبة معروفة، ومن المعروف أن قاموس الرقابة المصرية لا يسمح إلا بعدد محدود جداً من ألفاظ السباب «الرقيقة».
تسبّبت هذه اللقطات في نجاح نسبي للفيلم الذي نزل إلى الصالات في نهاية الموسم، بعدما بدا أن أحداً لن يحقّق المزيد من الإيرادات، لكنه دفع بعض الغاضبين إلى إعلان رفض ما شهدته «سينما 2008» من «تعدًّ على الأخلاق». ولم يكن السبب بالطبع فيلم «دبور»، بل قبل ذلك ما قدّمه المخرج الجدلي خالد يوسف في فيلمه الجديد «الريس عمر حرب». وكما حدث مع «إتش دبور»، فإنّ الجدل حول فيلم خالد يوسف لم ينصبّ أساساً على المستوى الفني، بل على «القبلات» في الفيلم، وما أطلق عليه كثيرون «جنساً حقيقياً» على الشاشة!
والمقصود بكلمة «حقيقي» هنا ليس بالطبع أنّ يوسف قدّم ممارسة جنسية على الشاشة، بل مجرد أنّه سمح ببعض الـ«قبلات» ولم يستبدل بها إشارات أو تلميحات. وتلك المفاهيم رسّخها صنّاع السينما النظيفة التي تجاهلت التاريخ الطويل «والطبيعي» للسينما المصرية، وضحّت بـ«القبلات» قرباناً على مذبح «نظافة» السينما... في مقابل زيادة هائلة في استخدام الإيحاءات والتلميحات والنكات الجنسية. هذه النزعة بلغت ذروتها قبل عامين في فيلم «عليّ الطرب بالتلاتة» بطولة سعد الصغير والراقصة دينا. فيلم أغنية «العنب» الشهيرة الذي كان زاده النكات والرقصات الموحية، لم يقبل أن يعرض على الجمهور قبلة بين محمد عطية وريهام عبد الغفور. إذ جذب الرجل زوجته بعد غياب فرضته الأحداث، ليهبطا إلى الأسفل بعيداً عن الكادر!
اللقطات «الجريئة» في فيلم خالد يوسف، الألفاظ «البذيئة» في فيلم «دبور»، تواكبا مع صراع تخوضه نجمة أخرى تأمل العودة إلى السينما، هي عبير صبري التي خلعت حجابها، ولا تتراك فرصة للدفاع عن موقفها الذي تبعتها فيه أخريات... ما دفع ببعض المدافعين عن «أخلاقيات» الفن، إلى اعتبار 2008 موسماً أسود، مثّلت أفلامه «هجمة مرتدة» بلغة كرة القدم، ضد السينما التي كانت استقرت في الصالات المصرية بنجومها ومفاهيمها. في هذه الحالة أو تلك، يسيل الحبر وتستهلك العقول في جدل لا علاقة له «بالسينما» التي تقدمها الأفلام الجديدة... وتلك هي المشكلة الوحيدة التي لم يلحق بها التغيير بعد.
يذكر أنّ الفنان أحمد حلمي احتلّ قمة إيرادات الموسم الصيفي مجدداً بفيلمه «آسف على الإزعاج». إذ استطاع مبكراً أن يلمح تغيّر مزاج الجمهور في العامين الأخيرين، ففاجأه بفيلم ليس بعيداً عن الكوميديا فحسب، بل ينتمي إلى نوعية نادرة في السينما المصرية وهي «الدراما النفسية». حلمي الذي احتل مكانته دائماً من خلال الكوميديا، يضفي نجاحه بصورته الجديدة طابعاً شبه رسمي على تغيير موضوعات السينما المصرية، وخاصة في موسمها الصيفي الأكثر اعتماداً على الكوميديا.