كان هذا الكاتب والباحث والمترجم والناقد الأدبي مشغولاً دوماً بواقع الثقافة العراقية: كتب عن الفلسفة، وأفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط وهيغل... كما كتب عن العراقي البسيط وهمومه اليومية
حسين السكاف
في شارع المتنبي!
عن أي قاموس كنت تبحث يا كامل؟
هناك، تقف الكلمات حيرى
مثلك تماماً
تبتسم
محدقة في الخراب
وتنتظر المعنى

في العراق!
عن أي معنى كنت تبحث يا كامل؟
قبل أن تستقر رصاصات التخلف الكاتمة الصوت داخل جسده، قبل ذلك بدقائق معدودة، كان جسد الزاهد النحيل يتجول في شارع المتنبي باحثاً عن قاموس! كان العقل الباحث الممتلئ بالحب يبحث عن المعنى. تُرى عن أي قاموس كان يبحث الرجل المتمكن من خمس لغات عالمية، ربما استوقفته كلمة تنتمي للغة لا يعرفها أحد سواه... هل كانت لغة قاتليه؟
هكذا هو الكاتب والباحث والمترجم والناقد الأدبي كامل شياع، المشغول على الدوام بواقع الثقافة العراقية، هو الأفضل منّا جميعاً، نحن أبناء جلدته، نقياً، شفافاً مسالماً، شجاعاً، هو الأشجع منا جميعاً.
كان يكتب للعراقيين عن الفلسفة، عن أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط وهيغل وفيتغنشتاين، كما يكتب عن العراقي البسيط وهمومه اليومية. يكتب عن المنظومات التي أشادها أفلاطون وأرسطو، شوبنهاور وسبينوزا وهيغل. كان يكتب عن تألق الروح البشرية وانبعاثها نقية محبة من وسط الخراب. كنا نسأله وحرصنا الشديد على حياته يدفعنا إلى تكرار السؤال: ماذا تفعل هناك وسط الخراب والوحوش والعقول الخاوية؟.
وكان بضحكته الهادئة يجيبنا: «إن حلمي في العودة لم يكن مبنيّاً على توقّعات رومانسية، بل جاء متوقعاً خراباً كبيراً يدفعه إلى المزيد من التحدي، لاكتشاف أسبابه والإصرار على مواجهته باسم المشاركة في صنع مستقبل البلاد: «كنتُ أعرف مسبقاً أنّ العراق قد تعرّض لتخريب وتعرض لحصار وتجويع وإنهاك كامل وتدمير بناه التحتية. مشهد الخراب هذا كنت أتوقّعه. جئت إلى العراق لكي أكتشفه وأتعايش معه. ولكي أصبر على إزعاجاته ومشاكساته التي تواجهني...».
كان شعوراً لذيذاً يوحِّد كل الذين يلتقونه للمرة الأولى «هذا الرجل أكبر من أن يكون وكيلاً أو مستشاراً لوزير ثقافة... هذا الرجل أكبر من منصبه...». هكذا هو، مسالم حتى في موته، كان يرفض السلاح ورجال الحماية والمظاهر العسكرية المرافقة لمسؤول في الدولة. كان منصهراً مع البسطاء في مكان ضيق اسمه العراق: بلد الأرامل والأيتام. كان كثيراً ما يجيب سائليه عن تجربته في العراق، بعمق فكرة تنبثق من روحها البساطة: «نجحت بقدر كبير في تطويع نفسي مع واقع صعب، واقع في الحقيقة يخذل الكثير من التوقعات الرومانسية المبنيّة عليه. هي تجربة مهمة في العيش حيث مكان محدد وزمان محدد، مع بشر محددين، وفي سياق ملموس. وهذا ما كنت أفتقده كعراقي عاش في الخارج لفترة طويلة وشعر بأنّ اللحظة مؤاتية كي يستوي مع الناس، ويبسط حياته وأفكاره ويتعايش مع الواقع من دون توقعات كثيرة، ومن دون أحلام ونظريات وتجريدات ومفاهيم. وهذا ما أمدّني بطاقة هائلة على التحمّل وقدرة على الرصد والاكتشاف والتعايش واكتشاف لغة جديدة مع هذا الواقع الذي بدا لي غريباً للوهلة الأولى...».
لقد خسر العراق بفقدان الباحث كامل شياع شرفاً ثقافياً، نقيّاً وروحاً إنسانية نبيلة كانت ترفض الاقتناع بأنّ هناك إرهاباً وعقولاً عفنة تترصّد النقاء والأرواح المحبة لإنسانية الإنسان.