صاحب تجربة خاصة في الموسيقى الفلسطينيّة. أسطوانته الثانية «جسر» تسجّل تطويراً لمفهوم التخت الشرقي، استدعى إليها سيد درويش ومنير بشير وفيلمون وهبه ووديع الصافي وجميل الطنبوري ومطر محمد...
بشير صفير
في فلسطين تجارب موسيقية كثيرة، ومواهب تصنع الحالة الفنية الأكثر تماسكاً ــــ أصيلة كانت أم مجدِّدة ـــ والأبعد عن الحالة التجارية في الوطن العربي. تصلنا (مصادفةً) بعض الأعمال المولودة من رحم المعاناة، وتبقى أخرى تحت الحصار. خالد جبران هو من بين تلك الأسماء المميّزة. ولد هذا الموسيقي الفلسطيني في الجليل عام 1961، في كنف والد موسيقي وصانع أعواد هو إلياس جبران. أخته الأصغر هي كاميليا جبران التي استقلّت بتجربة مميّزة بعد حضورها في فرقة «صابرين» الشهيرة. درس النظريات الموسيقية والعزف على آلتَيْ العود والبزق. أسس «مركز الأرموي للموسيقى» (2001) تيمّناً بصفي الدين الأرموي، موسيقي الخليفة العباسي المستعصم. له تسجيلات مع «فرقة الموسيقى الشرقية» التي يقودها ويوزع لها أعمالاً من التراث الشعبي والفولكلور المشرقي، وصدرت أخيراً أسطوانته الخاصة الثانية بعنوان «بريدج» («جسر» ــــ 2008) بعد ثلاث سنوات من باكورته «مزامير» (2005). تلفتنا في خالد جبران موهبته الموسيقية القائمة على ركيزتَيْن أساسيّتَيْن. الأولى إتقانه الدقيق لتوزيعاته الموسيقية المعقّدة في المضمون والسلِسة نتيجتها الصوتية. إذ يستعمل تقنيات التقابل والتوافق بذائقة قل نظيرها في الوطن العربي. والثانية قدرته الكبيرة على الارتجال والتقسيم، والتنويع على موضوعات موسيقية بسيطة جداً في جوهرها. يتمحور ألبومه الجديد (وأعماله مع «فرقة الموسيقى الشرقية» عموماً) حول الركيزة الأولى، بينما لا يغيب الارتجال عن تجاربه، بل ينحصر تارة أو يكون محور اللعبة تارةً أخرى.
«جسر» هو من جهة بمثابة تطوير لمفهوم التخت الشرقي من حيث التركيبة، ويكتنف رؤية جديدة لأنسجة التناغم في الموسيقى الشرقية من جهة أخرى. إنه أقرب تجربة إلى «بالأفراح» (زياد الرحباني ــــ 1977)، من حيث المناخ العام الذي تخلقه في الأساس تركيبة الفرقة الموسيقية، وتشابه معظم الآلات المستعملة (مع وجود فرادة هنا وهناك، وخصوصاً في ما يخص الآلات المصرية الشعبية التي أدرجها جبران في الفرقة)، إضافة إلى الأفكار الموسيقية الجميلة الموجِّهة لعملية إعادة قولبة كلاسيكيات من الشرق. لكن لدى خالد ميل دائم إلى استدعاء الحزن، حتى يكون الراعي والضابط للعبة بكل تفاصيلها فتكتسب بذلك نَفَساً وهوية خاصَّيْن. في أسطوانته الجديدة «جسر» أعمال لسيد درويش («شدّ الحِزام»)، ومنير بشير («إم الخلخال»)، وفيلمون وهبه/ فيروز («مرسال المراسيل»)، ووديع الصافي («لا عيوني غريبة» التي يهديها خالد جبران إلى روح عازف البزق اللبناني مطر محمد)، وجميل الطنبوري («سماعي شد عربان»)، ومن الفولكلور «يا مية مسا». هكذا يتكوّن«الجسر» بين تركيا ومصر ولبنان والعراق وفولكلور بلاد الشام. إضافة إلى هذه الأعمال التي تتخلل معظمها تقاسيم عابرة، فرد جبران فسحة ارتجال أراد منها ارتحالاً نوستالجياً إلى عمله السابق «مزامير»، ويغمز في ختامها من جملة تمهِّد لـ «لا عيوني غريبة» التي تليها في الألبوم. في الأسطوانة محطة لافتة أيضاً، حيث تلامس لعبة التوزيع الموسيقى الذروة في «واه حبيبي» (ترنيمة من ترانيم الجمعة العظيمة، نعرفها خاصة بصوت فيروز، وهي في الأصل لحن من الموسيقى الكلاسيكية الغربية).
كعازف بزق، يتخطّى جبران «أمير البزق» السوري محمد عبد الكريم (1911 ــــ 1989) لجهة إحساسه الموسيقي في علاقته بهذه الآلة. وينافس أمير هذه الآلة في لبنان مطر محمد (1939 ـــ 1995). لكن عسى الأمير الفلسطيني الجديد لا يلقى مصير الأميرين ويقع ضحية التهميش، أولاً ثم فريسة النسيان في الذاكرة الموسيقية الشرقية؟.

[email protected]


«مزامير» إيرانيّة

في «جسر» يعرّي خالد جبران الأغنية من الكلمات، مستبدلاً إياها بوسيلة تعبير قد تكون أشد وضوحاً. أما أسطوانته الأولى «مزامير» التي جاءت مرثيّة موسيقية لشهداء الانتفاضة الثانية، فولدت بالأصل من دون تبنٍّ. أرادها صامتة باكية على مصير أهله وشعبه. يحضر الإيقاع في «مزامير» ثم ينكفئ أمام انفلات الآلات (بزق، عود، بزق باص)، منفردة أو مجتمعة، حين يصبح تعبيرها غير قابل للضبط. لمزيد من الحزن يعرّج جبران على المقامات الإيرانية، داعماً الخيار باعتماد أسلوب العزف على السِتار الإيراني الشبيه بالبزق