كنا نتوقّع انتصاره هذه المرة أيضاً... ولكنوائل عبد الفتاح
اكتملت سيرته إذاً. غرق يوسف شاهين في نوم عميق، وغالباً سيشعر بالاستفزاز لأنه لن يحوّل أحلامه إلى فيلم جديد. هو الذي اخترق أكبر تابو في السينما العربية، وهو الحكي عن الذات: سيرته وأحلامه، نزواته ورغباته. جو يبتسم الآن ويتمتم بكلمات غاضبة في الوقت نفسه. وهو يحاول أن يحكي أحلامه ويرسمها على شاشة السماء الكبيرة، ولا يجد دار عرض. لن يسمح لجنازته بأن تكون مشهد النهاية. سيبحث عن قفزاته على سلم الحياة خفيفاً.
كان يوسف شاهين يخجل من حذائه المقطوع. هو الفقير بين أرستقراطية الإسكندرية في مدرسة فيكتوريا كوليدج (تخرج فيها ملوك وتجار ونجوم من الملك حسين إلى ادوارد سعيد مروراً بعمر الشريف). أحلامه كبيرة. متعثرة. لا يقدر على شراء بدلة على الموضة ولا حذاء أبيض. يملك فقط خفة الدم. ومهارة الرقص مع البنات في كوكتيلات الطبقة العليا. هذه أدواته في لفت الانتباه وسط محيط الأغنياء المتعجرفين.
ولد يوسف شاهين يوم 25 كانون الثاني (يناير) 1926 في الإسكندرية في عائلة مهاجرة وتحلم بهجرة أخرى. الأجداد تركوا زحلة النائمة في أحضان جبل لبنان وأبحروا إلى الإسكندرية، مدينة «العالم» التي كان يعيش فيها 600 ألف «خواجة». تمتزج ثقافاتهم... وأفكارهم وتتصارع رغباتهم في ملعب الطموح السياسي والمالي، بينهم كان يوسف: نصف خواجة. بربع إمكانات مالية. وعناد شخصي لا حدود له. أبوه المحامي يحلم له بالعبور من خندق الفقر إلى عالم الأثرياء. العائلة متوترة. على سطح من رغبات مكتومة في هجرة ثانية... إلى درجة أعلى في سلم البورجوازية. كان الشاب مرتبكاً دائماً، ويتكلم بسرعة لكي لا يلحظ أحد توتراته الداخلية. ظل معذباً برغبات العائلة وأحلامها في الصعود. وبمحاولة إقناع المحيط الغريب من حوله بإمكان قبوله. مرةً، كان عليه أن يذهب إلى حفلة ولم يستطع لأنّ الاختيار كان إما أن يشتري بدلة مناسبة، أو تشتري أخته فستاناً جديداً.
لم يذهب. لكنه عاد في اليوم التالي إلى المدرسة بفكرة اكتشف معها طريقة جديدة لاستعراض مواهبه. وإثبات أنّه متفوق. يستطيع السيطرة على الانتباه. وقف أمام فصل من 30 تلميذاً «همج كما وصفهم»، وألقى مونولوج الملك «ريتشارد الثاني» أحد أبطال تراجيديا شكسبير. المونولوج كان لحظة حُكِم على الملك فيها بالتنازل عن كل شيء. مصير قاسٍ لشخص يهوي من على عرش إمكاناته وجبروته إلى التسليم. والشاب لعب بكل أعصابه للسيطرة على المشاعر الهائجة والساخطة وأنهى المشهد بدموع ساخنة. وهم استقبلوه بتصفيق حاد.
يومها، اكتشف الفن طريقة من طرق إثبات الوجود. واكتشف المسرح. وشكسبير. هنا تحول الحلم من اللحاق بطابور الجامعة (والتخرج محامياً مثل والده أو موظفاً في بنك ينتظر المرتّب أول كل شهر كما قالت أمه) إلى التمثيل. النجومية. هوليوود. وهنا جمعت العائلة كل طاقاتها المالية (باعوا قطعاً من الأثاث والبيانو..) ليسافر الشاب الطموح ويركب السفينة إلى «باسادينا» في العالم الجديد (أميركا). هناك، اكتشف أنّه لا يصلح ليكون ممثلاً.
هذا قبل أن يعود (يحب جو أن يشبِّه عودته إلى مصر ببطل فيلمه «ابن النيل» المغامر الذي اكتشف وجه المدينة الشرير وعاد ليبحث عن تحقّق في بلده. هو عاد ليكون مخرجاً مصرياً. وليس فقط لأنّ أحوال عائلته المالية تدهورت بعد موت الأب). المهم عاد يوسف وقابل المصور الإيطالي الفيزي اورفانيللي الذي فتح الباب أمام أول تجربة له: «بابا أمين» ليصبح مخرجاً وعمره 23 سنة فقط.
حكى يوسف شاهين حلم الخروج من الاسكندرية في «اسكندرية ليه» الذي انتهى بمشهد اللحاق بالسفينة في اللحظة الأخيرة. أكمل الحكايات في «حدوتة مصرية» و«اسكندرية كمان وكمان» لتكون سيرته على مرآة السينما. حكى فيها بلا رقابة أقرب إلى أسلوب المحاكمة لا الاعترافات. في لعبة يستمتع بها وحده غالباً. يلعن فكرة العائلة. ويكشف مستورها. حتى إنّه في «حدوته مصرية»، يلمّح إلى مغامرات أمه الجنسية، هي التي حكى عنها أكثر من مرة «فكر بأمي وبغيرها. كانت صبية جميلة جداً وكان والدها يقفل عليها في الغرفة ويمنعها من الخروج. زوّجوها برجل بشع يكبرها بحوالى 25 سنة هو والدي. عندما دخل عليها لم تكن تعرف ما هو شكل الرجل. ولا يمكنك أن تطلب منها أكثر مما فعلت».
محاكمة استعاد فيها أسئلة زمن المراهقة. استعادها وهو يضحك على الموت. كما توقّع محبّوه أن ينتصر هذه المرة أيضاً ليستمر علامةً كبيرةً على البهجة في السينما. وأول من أحدثَ نقلة ارتباط الفيلم باسم المخرج. والقادر على صناعة مغامرات كبيرة. كنا ننتظر انتصاره هذه المرة لنرى شوطاً آخر من مغامرات جو المتمرد المشاغب القادر على إثارة المفاجآت، منتقماً من أول مرة فشل فيها فشلاً ذريعاً حين تحول عرض مسرحي أخرجه وهو طالب بكالوريا إلى فوضى كاملة.


من الغريب أن تكون ردود الفعل الرسميّة الأولى على رحيل شاهين، بل الوحيدة حتّى كتابة هذه السطور، آتية من فرنسا، وليس من العالم العربي. فقد وجّه الرئيس ساركوزي تحيّة إلى الراحل الذي «عمل كل حياته على محاربة الرقابة والتطرف». كما حيّاه كل من رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون والرئيس السابق جاك شيراك.