حرب البيانات... في الطريق إلى «الأونيسكو»


بعد أكثر من عقدين في وزارة الثقافة المصريّة، يخوض معركته الأخيرة، على كلّ الجبهات: ابتزاز إسرائيلي لدفعه إلى مزيد من التنازلات، منافسة عربيّة من مرشّحة المغرب عزيزة بناني، وحملة داخليّة ضدّه جوبهت ببيان تضامني

القاهرة ــــ محمد شعير

تشهد القاهرة حالياً ما يمكن أن نسمّيه«حرب البيانات»، بين مؤيّدي فاروق حسني ومعارضيه، وذلك على خلفيّة ترشّح وزير الثقافة إلى منصب المدير العام لمنظمة التربية والثقافة والعلوم «الأونيسكو» الذي تختاره الدول الأعضاء في العام المقبل. البيان الأول الذي صدر عن دائرة مهمّة من المثقّفين المصريّين، رأى في حوار الوزير مع صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية (راجع «الأخبار» 23 حزيران/ يونيو 2008) «خضوعاً ذليلاً للابتزاز الإسرائيلي من أجل مصلحة شخصية للوزير»... وما هي إلا أيام، حتى وزّع المكتب الإعلامي للوزير بياناً «مضاداً»، جاء فيه أنّ 300 مثقف عربي ومصري أصدروا بياناً مؤيّداً لترشيح الوزير لمنصب الأونيسكو. بيان الوزارة لم يذكر أي أسماء عربية أو مصرية، بل فقط أعدادهم: 146 اسماً من مصر، 38 من سوريا، 34 من الكويت، 8 من لبنان، 11 من تونس، 5 من الجزائر، 6 من السودان، واحد من كل من المغرب والعراق، 13 من فلسطين، و24 من الأردن. وجاء في البيان أنّ الموقّعين يدعمون ترشيح حسني للمنصب باعتباره «رجل الانفتاح الثقافي والحوار، والقادر على جعل المرحلة المقبلة للأونيسكو مرحلة نماء وازدهار تقوم على الوفاق الإنساني والتعايش الحضاري بين مختلف الثقافات».
ولدى سؤال المكتب الإعلامي عن أسماء الموقّعين على البيان، أكّدوا أنّ جابر عصفور رئيس «المركز القومي للترجمة»، هو الذي يعرف الأسماء باعتباره صاحب فكرة البيان. عصفور أوضح لـ«الأخبار» أنّ الشاعر أدونيس هو صاحب فكرة البيان. إذ اقترح خلال اجتماعهم في نيسان (ابريل) الماضي في فيينا خلال مؤتمر «كتاب في جريدة»، إصدار بيان لتأييد الوزير المصري و«خصوصاً بعد تصاعد الحملات الصهيونية ضدّه، وقد لاقى الاقتراح ترحيباً من المشاركين، وكُلِّف مثقف من كل بلد عربي بجمع توقيعات المثقفين هناك». وأضاف عصفور: «وقّع البيان حتى الآن 150 مصرياً، و200 كاتب ومثقف عربي أبرزهم أدونيس، ومحمود درويش، خلدون النقيب، سليمان العسكري، محمد شاهين، حيدر إبراهيم. ومن مصر أحمد عبد المعطي حجازي، سيد يس، مصطفى العبادي، أحمد أبوزيد».
هل كان البيان ردّاً على بيان المثقفين المصريين الـ25 الذي صدر الأسبوع الماضي منتقداً محاولة الوزير استعطاف الجانب الإسرائيلي لتأييد ترشيحه؟ يجيب عصفور: «البيان جاء رداً على الحملات الصهيونية التي تتهم الوزير بمعاداة السامية، وليس موجّها إلى أحد داخل مصر». ولكن لماذا تأخّر الإعلان عنه كل هذه الفترة؟ يوضح صاحب «نقد ثقافة التخلّف»: «لأنّنا قسّمنا العمل، وتولّى عدد من المثقفين جمع التوقيعات. مثلاً، تولّى الدكتور سليمان العسكري جمع التوقيعات في الكويت ومنطقة الخليج، والدكتور محمد شاهين توقيعات الفلسطينيين والأردنيين، والدكتور حيدر إبراهيم توقيعات السودانيين، وعلي أبو شادي كان مسؤولاً عن توقيعات المثقفين في مصر. وأنا نفسي اتصلت بعدد من أصدقائي وطلبت توقيعاتهم واستجابوا. هذا كلّه احتاج إلى وقت».
ولعلّ من المستغرب ألا يكون أي من الموقّعين الـ300 قد تراجع عن تأييده للوزير، بعد حواره مع الصحيفة الإسرائيلية! جابر عصفور لديه تفسير لذلك: «المثقفون العقلاء قرأوا حوار الوزير في سياقه الطبيعي، وفهموا منه أنّه لن يتخلى عن موقفه من التطبيع. فهو كوزير يتصرف ضمن مرجعية قومية، ملتزم بها ما دام هو واحد من المثقفين. لا تطبيع مع إسرائيل: المسألة ليس فيها نقاش...». ويضيف الرئيس السابق لـ«المجلس الأعلى للثقافة» بكل ثقة: «لم يتصدّ أحد للتطبيع كما فعل الوزير وقيادات وزارة الثقافة».
جابر عصفور، أحد المثقفين الليبراليين والتنويريين البارزين في مصر، اختار منذ عقدين أن يصبح من رموز الثقافة الرسميّة. وليس هناك ما يحدّ حماسته في الدفاع عن وزير الثقافة المصري: «قال حسني إنّه مستعد لزيارة إسرائيل عندما يتحقق السلام الشامل والعادل. لكنّ القراءة المتربصة على طريقة «لا تقربوا الصلاة...»، افترضت أنّ الوزير يقدّم تنازلات لإسرائيل». واختتم عصفور بسؤال: «أين كان المثقفون المصريون الـ25، مع كامل احترامي لهم، عندما تعرّض فاروق حسني لحملة من المنظمات الصهيونية؟ ألم يكن من الأفضل تأييده حتى ولو كان خصماً لهم؟».
لكنّ الجدل لم ينته هنا. هناك بيان آخر يعدّه المثقفون المصريون لرفض ترشيح فاروق حسني إلى منصب إدارة الأونيسكو. شيرين أبو النجا، أستاذة الأدب الإنكليزي في جامعة القاهرة، وصاحبة فكرة بيان انتقاد فاروق حسني، نفت أن يكون لها أي علاقة ببيان جديد قيد الإعداد، وأوضحت: «ما يدعوك إلى إصدار بيان «مؤيّد» أو «رافض» هو إعلان موقف رمزي ومبدئي. لا يعنيني كثيراً عدد الموقّعين. وكلّنا يدرك تماماً أنّ بياناً يؤيّد وصول الوزير إلى سدّة منظمة الأونيسكو، أو يعارض تعيينه في هذا المنصب، لا يعني شيئاً في آليات الانتخاب أو التعيين الدولي. لا بدّ أن ننتبه إلى الشحنة الرمزيّة التي تحملها كل هذه البيانات».
وتوضح أبو النجا: «من حقي البسيط، كفرد يتفرّج على مشهد الدم الذي بات يومياً واعتياديّاً، ألّا أهادن إسرائيل، وألّا أجاملها، وألّا أراعي مشاعرها، وأن أطلب من وزير ثقافة بلدي ألّا يقع في هذا الفخ. كمواطنة مصريّة وعربيّة، لا أعرف باسم أي منطق عليّ أن أكون شاهد زور على تجرّع السم في كأس مكتوب عليها منصب دولي! لست مضطرة إلى قبول مغالطات فكرية تجرني إلى «سكة الندامة». إذا كان هؤلاء الرافضون للتطبيع قلة ولا قيمة لهم، فما الذي يقلق في الأمر؟ لتذهب إسرائيل إلى الجحيم ولتذهب معها المناصب».
بالنسبة إلى سيد البحراوي، أستاذ الأدب العربي في جامعة القاهرة، ليست المشكلة في أن يتولّى فاروق حسني منصب المدير العام لـ«الأونيسكو»، بعد سنوات طويلة في وزارة الثقافة المصريّة. السؤال ما هي التنازلات التي سيقدمها لهذه الغاية؟ «أنا أتوقّع من أي شخصيّة عربيّة في هذا الموقع أن تنحاز إلى القضايا العادلة في كل الصراعات التي يشهدها العالم، وأن تدافع عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وأن تدين بشدّة مختلف أشكال الاعتداء على تلك الحقوق. والواضح من حوار الوزير أنّه لن يفعل ذلك. لا أفهم كيف يكون بوسع المرشح المصري لقيادة مؤسسة دوليّة بهذه الأهميّة، أن يتجاهل ما تتعرض له فلسطين منذ ستين عاماً، وأن يتعامل مع الكيان الذي قام على احتقار شعوب المنطقة واغتصاب حقوقها، كندّ جدير بالاحترام والتعامل السلمي المحايد». ويسخر البحراوي ممن يعدّون حسني رمزاً للمثقفين المصريين، أو رمزاً لمصر: «كلام غريب حقاً. لا يشرّف مصر أن يكون مثله مديراً للأونيسكو». أما البيان الذي جاء يدعم ترشيح حسني لهذا المنصب الرفيع، فيعلّق عليه البحراوي قائلاً: «من حق موظفي وزارة الثقافة (والمنتفعين منها، ومن أنظمة ومؤسسات مشابهة في العالم العربي)، أن يصدروا ما يطيب لهم من بيانات... بحكم المصلحة والوظيفة»!
من جهته، أكد الروائي محمد البساطي أنّ مجموعة من المثقفيين المصريين يتداولون حالياً توجيه رسالة إلى مؤسسات الأمم المتحدة (الأونيسكو واحدة منها)، تطالب بعدم اختيار فاروق حسني مديراً لهذه المنظمة الدولية، مع تعداد الأسباب التي تدعوهم إلى اتخاذ مثل هذا الموقف، وما تعرّضت له الثقافة المصرية في عهده من كوارث! إذاً، الساحة الثقافيّة المصريّة لم تقل بعد كلمتها الفصل... ولا شكّ في أن صيف القاهرة سيكون حامياً على هذه الجبهة.


آخر تانغو في القاهرة

بعد إعلان بيان المثقفين العرب لتأييد ترشيح فاروق حسني لمنصب المدير العام لمنظمة الـ«أونيسكو»، دعا الوزير إلى مؤتمر صحافي عاجل، لم يكن من أجل فض الالتباس بشأن موقفه من التطبيع، بل لتقديم اعتذار لرئيس الوزراء المصري أحمد نظيف بعدما نشرت صحيفة «المصري اليوم» خبراً يؤكد أنّ «رئيس الوزراء يستبعد الشاعر فاروق جويدة من التعيين في «المجلس الأعلى للثقافة» بسبب مقالاته التي ينتقد فيها الحكومة». الخبر أغضب على ما يبدو رئيس الوزراء، ما جعل حسني يسارع إلى عقد مؤتمر صحافي أوضح فيه «أنّ رئيس الوزراء بعيد كل البعد عن موضوع فاروق جويدة، وإذا كان هناك خطأ فهو خطئي أنا، لأنّني أبلغت جويدة أنّنا نفكر في اختياره عضواً فى المجلس الأعلى للثقافة». وأضاف الوزير: «مجلس الوزراء لم يقبل الترشيح ولم يرفضه، وهذا شأن موضوعات كثيرة لا يأتي فيها رد وتحتاج إلى تذكير من جانبي».
المثير للدهشة أنّ جويدة هو أحد أبرز المرشحين لخلافة حسني في وزارة الثقافة. إذ يؤكد بعضهم أنّ الأيام المقبلة ستشهد تغييراً وزارياً سيطال فاروق حسني أقدم وزير في الحكومة المصرية. وبعض المطلعين على مطبخ الحكومة المصرية، يؤكدون أنّ القيادة السياسية رشحت 6 أسماء لتولي المنصب: فوزي فهمي الرئيس السابق لـ«أكاديمية الفنون» وعضو مجلس الشورى، والناشر إبراهيم المعلم صاحب «دار الشروق»، عالم الآثار زاهي حواس أمين «المجلس الأعلى للآثار»، الروائي جمال الغيطاني رئيس تحرير «أخبار الأدب»، محمد سلماوي رئيس «اتحاد الكتّاب العرب»، وأخيراً الشاعر فاروق جويدة. لا أحد يعرف إن كانت هذه الترشيحات صحيحة أو مجرد تكهنات، وهل سيكون الاختيار من بينها، أم أنّ الاختيار سيكون بعيداً عن هذه الأسماء وسيتمّ من بين المستشارين الثقافيين لمصر في عواصم العالم... تماماً كما كان الأمر بالنسبة إلى فاروق حسني، قبل... 21 عاماً؟