أكثر من مثقف نقدي، إنّه قيمة فكريّة وأخلاقيّة. كيف ولماذا تعايش إذاً مع المؤسسة الرسميّة طوال هذه السنوات؟ صاحب «نقد ثقافة التخلّف» يدافع عن نفسه، في مناسبة صدور كتابه المذكور، وعشيّة سفره إلى باريس لإجراء جراحة قلبيّة
القاهرة ــــ محمد شعير
هل يمكن القول إنّك تنويري داخل السلطة؟ سألتُ جابر عصفور، بحثاً عن تقويمه لتجربته على رأس المؤسسة الثقافية الرسمية لأكثر من 14 عاماً. لم ينتظر انتهاء السؤال، أجاب فوراً: «بل تنويريّ، خارج السلطة». صاحب «نقد ثقافة التخلّف» أحدث كتاب صدر له منذ أيام عن «دار الشروق» المصرية يرى أنّه لم يكن يعمل مع سلطة، بل مع دولة أتاحت له «منافذ» حقّق عبرها بعضاً من مشروعه الثقافي. كان بين الطرفين «اتفاق مضمر» كما يسمّيه، ما دامت هذه الدولة تسمح لك بتحقيق ما يؤدي إلى تثقيف الناس. في كل الأحوال، ما دمت مثقفاً يجب أن تعوِّد نفسك أنّك خارج السلطة، بل خارج الدولة تنظر إلى ما يحدث فيها من منظور معارض أو مستقل يستطيع رؤية السلبيات». ربما كانت هذه واحدة من نقاط الالتقاء بين جابر عصفور وطه حسين الذي عمل وزيراً للتعليم في حكومة الوفد.
عصفور حمل معه إلى مكتبه الجديد في «المركز القومي للترجمة» صورة طه حسين التي يحرص على أن تكون أمامه دائماً، وإلى جوارها صورة لنجيب محفوظ، بينما ترك في مكتبه القديم في «المجلس الأعلى للثقافة» صورة الرئيس الرسمية.
14 عاماً قضاها أميناً للمجلس، هذا الجهاز الأهم المولج برسم الخطط الثقافية التي ينبغي للمؤسسات الأخرى تنفيذها. وصل إلى منصبه في وقت كانت فيه أجهزة الثقافة والإعلام مجنّدةً بأكملها لمعركة السلطة ضدّ الإرهاب والأصولية... المثقفون الذين دخلوا المعركة حينذاك إلى جانب السلطة ــــ عن حسن نية تارةً، وطمعاً بامتيازاتها تارةً أخرى ــــ انتهى دورهم بعدما حققوا للسلطة ما تريد، وخرجوا من المعركة مستهلكين على مستوى الصورة والخطاب والصدقية.
يرفض عصفور هذا التصوّر معتبراً أنّ «استهلاك المثقفين لم يحدث، بل هناك ضغوط شعر معها المثقف بأنّه يؤدي أدواراً متعددة. المثقف الحقيقي يجب أن يتصدّى للطرفين: الدولة عندما تتخلى عن «مدنيتها»، ومشروعات التطرف والإرهاب. وهو دائماً واقع بين المطرقة والسندان». لكن ماذا عن الجوانب التي يرى هذا المثقف التنويري أن مشروعه يتقاطع عندها مع مشروع الدولة، وخصوصاً أنّ معظم الأنظمة العربية عسكرية وقائمة على الاستبداد والفساد، ما يلغي أسس وجود الدولة «المدنية»؟ «لم يحدث أي نوع من التوازي بين مشروعي ومشروع الدولة، حتى لو اتصفت بالصفة المدنية. من خلال كتابتي، كنت دوماً أقرب إلى موقف المعارِض لسياسات الدولة. أنتقد عدم تحديث الجوانب الحديثة للدولة المدنية، سواء فصل السلطات، أو حقوق الإنسان أو حرية العقيدة والرأي. على العكس ستجد أنّ هذا المشروع أقرب إلى المعارضة، وكنت بقدر عدائي لتخلّف الجماعات الدينية السياسية، عدائياً للممارسات الموجودة في الدولة التي هي ليست دولة مدنية بالمعنى الحقيقي والكامل والحديث للكلمة».
نحاول أن نذهب أبعد مع عصفور الذي يحظى في مصر والعالم العربي باحترام واسع. ما الذي حدث إذاً حتى فقد المثقف تأثيره ودوره؟ بمعنى آخر: أيّهما الآن أكثر تأثيراً في الشارع، جابر عصفور أم الشيخ محمد عمارة؟ يجيب صاحب «مواجهة الإرهاب»: «بالتأكيد محمد عمارة، لأنّه نتاج واقع ثقافي متخلّف. وتدعمه الأجهزة الإيديولوجية للدولة، رغم أنّنا في نظام حكم يزعم الدفاع عن الدولة المدنية... لكنّ أجهزة إعلامها وتثقيفها تعمل عكس هذا الاتجاه». ويوضح الباحث التنويري: «هو يمشي على أرض ممهدة، ويخاطب آذاناً مستعدة للسماع والتصديق قبل أن تقتنع، بحكم تاريخ ثقافي طويل. نحن غرباء في الثقافة العربية السائدة. في أي مشروع ثقافي تحديثي تقدّمه، ستظل غريباً بالقياس إلى الثقافة التقليدية السائدة... وبالتالي لا بدّ من جهود خارقة كي تصل إلى رجل الشارع العادي». لكن، ألم يكن يحدث ذلك في الأربعينيات مثلاً؟ يجيب عصفور: «منذ العشرينيات وحتى مطلع الخمسينيات، كان الموقف مختلفاً، لأنّ الفكر الليبرالي كان السائد، وبدأت القطيعة مع دخولنا عصر الدولة التسلطية منذ 1952. والدولة التسلطية بحكم طبيعتها هي الوجه الآخر للدولة الدينية، لها كل صفاتها سواء البطريركية أو التراتبيّة!».
وكم من الوقت نحتاج للعودة إلى العشرينيات؟ يجيب صاحب «استعادة الماضي»: «ليس كثيراً. مهاتير محمد استطاع قلب الدنيا في ماليزيا في 18 عاماً فقط. نحتاج فقط إلى تغيير النظام التعليمي والإعلامي والثقافي، وعلاقة المؤسسة الدينية مع الجماهير. لدينا في مصر ربع مليون إمام مسجد. والفكر الذي يبثونه كل يوم جمعة ليس في مصلحة التقدم. لو تستطيع أن تعدّل تلك الأشياء، بشكل منطقي وعقلاني وعادل، ستختلف الأمور تماماً».
تتحدث عن تغيير النظام الثقافي، وقد كنت مسؤولاً على رأس مؤسسة مهمتها التثقيف... فكم نجح «المجلس الأعلى للثقافة» في «تنوير» الجماهير؟ يجيب عصفور: «بنسبة صفر في المئة، لأن المجلس ليس مهمته تنوير الجماهير، وإنّما هي مهمة مؤسسات أخرى. ولكن إذا سألتني عن تنوير المثقفين فسأقول لك نجحنا». لكن هل يحتاج المثقفون إلى «تنوير»؟ يجيب: «المجلس بطبيعته يخاطب النخبة الثقافية التي تتحوّل بؤراً تسهم في توسيع دائرة التنوير. أما بالنسبة إلى توعية الجماهير التي تتحدث عنها، فتلك مهمّة دور الثقافة الجماهيرية. بالطبع حدث تنوير في المجلس لأنك تقوم ببرنامج متحرر من أي خطوط حمر، تفتح مجالاً لحوار بين التيارات المختلفة في المجتمع العربي والمصري، وتسمح لهذه التيارات بأن تبدع في أفكارها وتصوراتها لمجتمعاتها، ثم تطبع هذه الأبحاث في كتب، فيظهر تأثيرها لاحقاً».
لكن هذه الحركة تحتاج إلى سنوات طويلة! «بالتأكيد ــــ يجيب عصفور ــــ العمل الثقافي يتطلّب وقتاً. حتى إذا حدث تغيير في نظامك التعليمي والثقافي والإعلامي والديني، فلا يعني ذلك أنّك ستجد سريعاً مواطناً مختلفاً». ويستشهد بكتابه الأحدث «نقد ثقافة التخلف»: «لقد نقدتُ ثقافة التخلف، وبيّنت جذورها القديمة، وتجلياتها المعاصرة، وعرّيت الجوانب السلبية فيها، ووضحت للناس مخاطر هذه الجوانب... والناس قرأوا. لكن لا تنتظر تغييراً مباشراً بمجرد أن يقرأ الناس». ألا يصيبك ذلك بالإحباط؟ «لا، لأنّ طبيعة عملي كمدرّس علمتني أنّ مجال الثقافة والفكر يتطلّب صبراً».
لم يحدث أن فكّر الدكتور عصفور في ترك منصبه في «المجلس الأعلى للثقافة»، لأنّه لم يقع أي تعارض بين مشروعه وبين ما تريده الدولة: «لو حدث أي تعارض، لتركتُ منصبي مطمئناً. يكفي أن تعرف أنّ وزارة الثقافة تتعامل معي اليوم باعتباري خبيراً يشرف على مركز يفيدها وهذا المركز كان أحد أحلامي». وهذا ما يجعلك تشعر بالرضى؟ يجيب: «بالتأكيد، وهناك شيء آخر يشعرني بالرضى: إذا تأملت المشهد النقدي المصري، فستجد أنّ أفضل النقاد فيه هم تلاميذي: محمد بدوي، حسين حمودة، إيمان مرسال، فاطمة قنديل...».
بعد قطيعة دامت 14 عاماً، التقى عصفور نصر حامد أبو زيد أخيراً. استغلّ أصدقاء مشتركون مناسبة زيارة قاهريّة قام بها المفكّر المصري الذي يعيش في المنفى، ليجمعوه بعصفور وتجري المصالحة. ونسأله ما مدى صحّة الرواية التي تجعله مسؤولاً ــــ بشكل غير مباشر ــــ عن نفي أبو زيد. إذ يقال إن عصفور وأسامة الباز (المستشار السياسي للرئيس مبارك)، طلبا شخصيّاً من نصر أن يسافر إلى هولندا بضعة أشهر، ريثما تهدأ العاصفة بعد اتهامه بالتكفير، ودعاوى الحسبة التي أقيمت ضدّه وضدّ زوجته الدكتورة ابتهال يونس... لكن الشهور طالت حتى وصلت إلى 14 عاماً؟
«لم يحدث ذلك» يقول عصفور بنبرة حاسمة. «كان هناك هجوم شديد على نصر أبو زيد في الجامعة وفي الإعلام، بعدما وجّهت إليه تهمة الإلحاد. فطلبنا أنا ووزير التعليم يومها حسن كامل بهاء الدين من نصر أن يؤكد مسألة إسلامه للرأي العام، لأنّه في آخر الأمر مسلم. وكنت أعرف أنّ ما كتبه نصر عن نقد الخطاب الديني لا ينصرف إلى نقد الدين بل إلى نقد مفاهيمه التأويلية وتصوراته التفسيرية فى أذهان المؤمنين به». ويضيف: «طلبنا من نصر أن يصدر بياناً بذلك وفعل. وعندما قرأه وزير التعليم قال: لكن ليس فيه أشهد أنّ لا إله إلا الله. فكتب هو بخطه تلك العبارة ولم أعترض. وعندما علم نصر بما جرى غضب فقلت له: نحذف العبارة ليس هناك مشكلة. لكنّ نسخة من البيان تسرّبت لبعض الصحف. وكان ذلك سبب القطيعة بيني وبين صديقي أبو زيد.
يضحك عصفور وهو يعود بذاكرته إلى السنوات الأولى التى تعرف فيها إلى نصر: «كنّا نسميه الشيخ، وكان نصر وسعيد الكفراوي ينتميان إلى جماعة الإخوان المسلمين».


سكّة الندامة!

بين خمسة كتب صدرت لجابر عصفور في العام الأخير، هناك كتاب واحد عن النقد الأدبي هو «رؤى العالم» الذي تناول تأسيس الحداثة الشعرية في الوطن العربي. أمّا الأربعة الباقية («نحو ثقافة مغايرة»، «مقالات غاضبة»، «جامعة دينها العلم»، و«نقد ثقافة التخلف») فهي عن القضية الأساسية: التنوير.
بدأت فكرة الكتاب الجديد أثناء حلقة دراسية عن ثقافة الإبداع، دعي إليها عصفور. وعندما محّص الأمر، وجد أنّ الثقافة العربية هي ثقافة «إتباع». فذهب إلى الجذور ليؤكد أن الكوارث التي نعيشها الآن، هي نتائج لجذور قديمة. ولهذا فهي راسخة تصعب «زحزحتها». هكذا، بدأ عصفور في تفكيك الأصول القديمة.
منذ المقدمة، يبدو أنّ عصفور يضع هذه الكتب في المرتبة الثانية، مؤكداً أنّها انعطافة عن مشروعه الأساسي (النقد الأدبي) لكنّها تصب فيه. وجاءت هذه الكتب نتيجة إحساس الكاتب بأنّ هناك خطراً يهدّد الدولة المدنية التي انتسب إليها. هذا الخطر يتمثّل في تيارات التطرف. لكنّ «هذه الانعطافة في نهاية الأمر تعود إلى المجرى الأساسي أي النقد الأدبي بمعناه الصافي أو الخالص، وتضيف إليه بعداً آخر من أبعاد الرؤية». عصفور يرفض تصنيف أعماله بأنّها تنتمي إلى النقد الأدبي، «لأنني ببساطة اخترت النقد الثقافي الذي يضع العمل الأدبي داخله، وبالتالي لا بد من أن يهتم بهذه الثقافة، وعندما تتأملها ستجد أنّ هذه الثقافة تعاني مشكلات مزمنة تجد فيها كل جوانب التخلف المتعددة». لكن رغم هذه الكتابات، إلا أنّ المجتمع يزداد تخلّفاً وأصوليةً، يقول عصفور: «لسبب بسيط أنتَ أمام تيار غالب، وهذا التيار مدعوم بسياسات خاطئة مسؤولة عنها بنية الدولة المدنية في المجتمعات العربية». يوضح «لا هوامش واسعة للحرية ومن بينها حرية الإبداع. هذا الخوف الذي يشبه الرعب من الجماعات الدينية، وأحياناً المصالحة معها وشراء ودّها». ويختم عصفور: «نحن على مفترق وأمامنا طريقان: طريق النجاة، وطريق الندامة. ويبدو أنّ قَدم مصر لا تذهب إلى طريق السلامة، إلا في حالات قليلة. لا بد إذاً من إعادة النظر في وضعنا كله، فقد فقدنا وزننا الثقافي والاقتصادي... وفي مجالات أخرى كثيرة». الحل في عبارة واحدة: «مشروع اشتراكي ديموقراطي».