أمل الأندري في روايته «خفّة الكائن التي لا تُحتمل»، يحكي ميلان كونديرا عن المأزق الذي يجد المرء نفسه فيه وهو الحياة. فهو يخوض هذه «المغامرة» كطفل في خطواته الأولى، يتلمّس الأشياء من حوله ويختبرها في غياب المثال الذي قد يهديه إلى الخيارات الصحيحة. الروائي التشيكي يحكي في رائعته عن ذاك الإحباط الوجودي الذي يصيب المرء، بعدما حُرمنا من فرصة عيش الحياة مرّتين لتصحيح تعاطينا معها في التجربة الثانية. لكنّ الكاتبة البريطانية دوريس ليسينغ (1919) وجدت حلاًّ لذلك. وها هي في كتابها، الجديد والأخير، «ألفريد وإميلي» (Fourth Estate) تمنح والديها فرصة الخروج من هذا المأزق وعيش حياتهما مرّةً ثانية.
صاحبة نوبل 2007 التي ما فتئت تغرف من ماضيها لتكتب أعمالها التي تربو اليوم على خمسين بين رواية وقصة ومسرحية، تزور هنا طفولتها للمرّة الأخيرة، متنقّلة بين المتخيّل والواقعي، لتخرج برواية ذات شقّين: الشقّ الأول عبارة عن حياة متخيّلة لوالديها ألفريد وإميلي، والشق الثاني هو الحياة الواقعية التي عاشاها. وفي تلك الفجوة بين الواقع والخيال، تجلس ليسينغ مصفّيةً حساباتها مع طفولتها البائسة والتعسة.
صحيح أنّ البريطاني إيان ماك إيوان لجأ في روايته «تكفير» (2001) إلى «حيلة» مماثلة، حيث الراوية تعيد اختراع حياة شقيقتها وحبيبها اللذين قضيا في الحرب العالمية الثانية، كنوع من التكفير عن الخطايا التي ارتكبتها الراوية في حقّهما. إلا أنّ ليسينغ لا تكفّر هنا عن أخطائها، بل تمنح والديها هديّة العمر وتجعلهما يعيشان حياتهما التي كانت لتحصل لو لم تقع الحرب العالمية الأولى.
هكذا، وبدلاً من أن يفقد والدها ساقه في الحرب ويترك كل شيء ليعيش حياة الفقر والهزيمة مع عائلته في زيمبابوي، ها هي صاحبة «العشب يغنّي» تدع ألفريد، الذي ترعرع مع أولاد المزارعين في بلدة كولتشيستر البريطانية، يحقّق حلمه بمزرعة خاصّة له ويتزوّج من بيتسي، المرأة المحليّة السمينة، وينجب منها صبيين معافين كوالدهما. أمّا والدتها إميلي التي جمعتها بها علاقةٌ صدامية، فستحقّق ليسينغ أمنيتها وتجعلها تتزوّج حبّ حياتها، وهو طبيب قضى غرقاً خلال الحرب.
في الشقّ الثاني (الواقعي) من الرواية، تورد ليسينغ صوراً قديمة واقتباساً من رواية دي. إتش لورانس «عشيق اللايدي شاتيرلي» وملاحظات كثيرة عن الحياة والذكريات والموت... والحرب وانعكاساتها على النفس البشرية. صحيح أنّ والدها خرج سالماً رغم فقدان ساقه، إلا أنّ شبح رفاقه الذين ابتعلتهم دوامة الدم ما انفكّ يلاحقه. وعلى رغم أنّه حاول الهرب من تلك الذكريات عبر اختراعه حياةً جديدة في زيمبابوي عام 1924، إلا أنّ ليسينغ ترى أن الحرب كانت وراء موته بعد سنوات. ولعلّ الاقتباس الذي أوردته من رواية «عشيق اللايدي شاتيرلي» جاء ليوصل انعكاسات الحرب إلى مصاف التراجيديا والرعب: «عندما نخال أنّنا تماثلنا للشفاء وصارت تلك الذكريات المؤلمة وراءنا، تبدأ الحرب بالتجلّي فينا بأفظع صورها».
اللافت في رواية صاحبة «المفكّرة الذهبية» أنّ ألفريد يتوارى لصالح إميلي، والدها المهزوم أقلّ حضوراً من وجه الوالدة التي كانت بمثابة وسواس ما فتئ يلاحق ليسينغ ويحدّد خياراتها في الحياة إنساناً وكاتبةً على حدّ سواء. فتلك الطفلة الشقية أقسمت في أحد الأيام ألا تشبه والدتها الباردة والصارمة، علماً بأنّ هذا ما دفع ليسينغ إلى اختيار بيتسي الحنون زوجةً لوالدها في الشق المتخيّل من الرواية.
هكذا، تمرّدت باكراً على كلّ شيء، بدءاً من الدور التقليدي للمرأة، فإذا بها تُشبّه بنظيرتها سيمون دوبوفوار وتستحيل أيقونة «التيّار النسوي» في القرن العشرين. أعمالها كلّها تدور في فلك طفولتها وذكرياتها. لكنّ تلك «الشيوعية السابقة»، في اختراعها حياةً ثانية لوالديها، إنّما حرّرت نفسها من ذاك الإرث الثقيل. لقد تحرّرت، إلى الأبد هذه المرّة، من سجن الطفولة... وخدعت الجميع!