بيار أبي صعبسي الفاضل لا يعيش عادةً في الأضواء، بل في عتمة المختبرات والكواليس وصالات التمارين. كل واحدة من مسرحيّاته تستغرق أشهراً طويلة من الإعداد والعمل المضني... يعلن مراراً افتتاحها، ثم يتأجّل الموعد في اللحظات الأخيرة. إنجاز العمل الفنّي عنده حالة أليمة تقترب من امتحان الموت: متى نكون مستعدين لاستقباله؟ هناك أشياء كثيرة نكتشف في اللحظات الأخيرة أنه ما زال علينا إنجازها... وهناك دائماً لدى الفاضل الجعايبي شعور بعدم الرضى عن أي عمل من أعماله. لا بد إذاً من مواصلة النحت والحفر والقص والإضافة. لذلك تتغيّر مسرحياته على امتداد أشهر أو سنوات تقديمها. ولذلك ربّما فإن الأعمال التي قدّمها هذا المسرحي التونسي في العقدين الأخيرين، يمكن تصنيفها ــــ بلا تردّد ــــ في خانة الروائع.
إنّه «المذبوح حيّاً» لمن يعرفه أو يعرف مسرحه... الرجل العاطفي الذي لا يخفي انفعالاته ولا يلجم فضوله ولا يجامل السلطة بمختلف أشكالها، يعيش عادةً في الظلّ، تاركاً لممثليه أن يتألقوا على الخشبة. لكنّه الليلة سيكون تحت الأضواء في استوديوهات «المستقبل»، حيث سجّل معه زاهي وهبي منذ أيام حلقة من برنامج «خليك بالبيت». قبل أشهر قليلة، زار الجعايبي دمشق وبيروت لتقديم مسرحيّته الإشكاليّة والصاخبة «خمسون»، مع رفيقة دربه جليلة بكار، وشريكهما الدائم الحبيب بالهادي، والكوريغراف نوال اسكندراني، وحفنة من ألمع ممثلي الخشبة في تونس والعالم العربي. وهو الآن، من جديد، في المدينة التي تعرفه وتحبّه، حيث يدير محترفاً إبداعيّاً، من تنظيم مسرح «دوار الشمس». وقد تحلقت حوله في ورشة العمل هذه مجموعة من الممثلات والممثلين بعضهم محترف، وبعضهم الآخر ما زال في مرحلة الإعداد.
يستنح زاهي وهبي المناسبة إذاً لاستعادة مسيرة فنيّة فريدة عمرها ثلاثة عقود، حملت إلى الخشبة التونسيّة والعربيّة بعض أجمل المسرحيّات، وأكثرها طليعيّة. يعرفه الجمهور اللبناني منذ «فاميليا» (1993)، وقد هزّ بيروت لاحقاً مع «عشاق المقهى المهجور» (1995)، ثم جاءتنا «خمسون» (2006) متأخرة الشتاء الماضي. لكن تجربة الفاضل الجعايبي بدأت تفرض نفسها عربياً وعالمياً قبل ذلك بسنوات عدّة. مسرحيّة «عرب» (1986 ــــ تحوّلت لاحقاً إلى فيلم) محطة أسطوريّة في ذاكرتنا المسرحيّة. آنذاك كان الجعايبي ما زال يعمل مع الفاضل الجزيري شريكه في تأسيس «المسرح الجديد». أعماله الأخرى من «العوّادة» (1989) و«كوميديا» (1991) إلى «سهرة خاصة» (1997) و«جنون» (2001 ــــ تحولت إلى السينما أيضاً)، محطات أساسية في تاريخ المسرح العربي، تمارين على فحص ضمير جماعي، تندرج في سياق نهضة مشهديّة تتمحور حول تجارب فنانين مميزين في تونس منذ ثمانينيات القرن الماضي.
الفاضل الجعايبي الذي خاض أيضاً مجال السينما مع «شيشخان» (1990)، يغور دائماً في الجراح الجماعيّة، طارحاً الأسئلة المزعجة، ويقتفي الزمن الهارب، متناولاً قضايا فكريّة ووجوديّة إشكاليّة، في قالب فني متقن الجماليّة وبالغ النضج. ويعتمد كثيراً على حضور الممثل في عمارته المشهديّة، إذ يدفعه دائماً إلى شفا الهاوية، حيث يكون المسرح بامتياز. أعماله باتت معروفة عالمياً، من بروكسيل إلى برلين، ومن طوكيو إلى باريس... ومن المتوقّع أن تقدّم «خمسون» في الموسم المقبل في الولايات المتحدة الأميركيّة.
الليلة 21:30 على «المستقبل» الفضائية/ الجمعة 21:00 على «المستقبل» الأرضية