السوبرانو اللبنانيّة في الأونيسكو تسافر عبر العصور
أسطوانتها الجديدة تتضمّن تنويعات على صلاة «السلام عليك يا مريم» لمؤلفين كبار أو مغمورين. الفنانة اللبنانية التي تجمع بين التراث الشرقي والأداء الكلاسيكي، تغنّي مساء الاثنين في بيروت، حيث اكتشفها الجمهور، مطلع التسعينات، في «عرس فيغارو» لموزار

بشير صفير

بات واضحاً أنّ الشهر الحالي سيعطي الجمهور اللبناني حقّه من ناحية غزارة الأنشطة الثقافية (مسرح، فن تشكيلي، تجهيز، عروض راقصة، تصوير فوتوغرافي، سينما،...). وينطبق ذلك على الموسيقى أكثر من سواها. إذ تكفي الحفلات التي أعلِن عنها، أو أقيمت أخيراً، لتلبية رغبات الجمهور مهما تنوعّت أذواقه. في هذا السياق، حصة محبّي الموسيقى الكلاسيكية الغربية (وتحديداً متذوقي فنّ الغناء الأوبرالي) محفوظة، من خلال أمسية وحيدة تقدّمها السوبرانو اللبنانية غادة غانم بعد غدٍ الاثنين في «قصر الأونيسكو».
تُعدّ هذه الإطلالة الفنية لغادة غانم استكمالاً لمشروعها الجديد الذي وصلنا أوّل فصوله مع أسطوانتها الجديدة. غادة ستقدم في الأمسية الأعمال الغنائية التي احتوت عليها أسطوانة Ave Maria . وقصدنا بفنّ الغناء الأوبرالي، الأعمال الغنائية الدينية تحديداً، لا الأعمال المقتطفة من أعمال أوبرالية أو الأغنيات، وهما الشقان الفنيّان المنضَويان أيضاً تحت هذا العنوان الكبير. الأسطوانة الجديدة تُقرأ من عنوانها الذي يحمل دلالة مباشرة على محتواها، أي نص صلاة «السلام عليكِ يا مريم» مُلحَّناً من جانب مؤلّفين مشهورين أو مغمورين، بدءاً من القرن السادس عشر (حقبة ما قبل الباروك) وصولاً إلى المعاصر، مروراً بالحقب الموسيقية المختلفة.
مغنية الأوبرا (سوبرانو) غادة غانم درست أصول الغناء في الكونسرفاتوار الوطني اللبناني، حيث نالت شهادتها العليا، كما درست الحقوق في جامعة القديس يوسف في بيروت. أكملت دراستها في الولايات المتحدة، وأطلّت لأول مرّة على الجمهور في ولاية هيوستن عام 1991 عندما تولت أداء دور في عرض أوبرا موزار الشهيرة «عرس فيغارو». جالت غانم العالم وقدّمت أمسيات غنائية في أهمّ الصالات في روسيا واليابان وكندا وأميركا... كما غنت للجمهور العربي في الأردن، وشاركت في مهرجانات فنية في سوريا والعراق. وهي تقيم اليوم في لبنان وتعمل مدرِّسة في الجامعة اللبنانية والكونسرفاتوار الوطني.
إضافةً إلى الأمسيات الغنائية الحيّة، تقوم تجربة غادة غانم الفنية على إصداراتها التي يعود أولها إلى 1997، مع أسطوانة بعنوان Come Ready And See Me حوت باقة من الأغنيات (من ريبرتوار الموسيقى الكلاسيكية في القرنين التاسع عشر والعشرين، والفولكلور الأميركي، والأغنية الفرنسية، والتراث الشرقي) باللغات العربية، الفرنسية، الإنكليزية، الروسية، ترافقها في أدائها آلات البيانو و/أو الفلوت أو العود. تلجأ غانم إلى الأداء الأوبرالي في الأعمال الأجنبية (تشايكوفسكي، ريمسكي ــــ كورساكوف، رخمانينوف، باربر، بولنك، فايل، ترينيه...) وتعود إلى الأداء العادي في «حيرانه ليه» (داوود حسني) و«حاملُ الهوى تعِبُ» (موشح من شعر أبو النواس، ملحنه مجهول). تلت التجربة الأولى أسطوانة أخرى، هي تسجيل حيّ لحفلة مشتركة مع عازف البيانو المصري رمزي يسَّا في جامعة كايمبردج البريطانيّة (2004).
ذات يوم، التقت غادة الشاعر طلال حيدر، ونشأت بينهما صداقة أثمرت عملاً مشتركاً بعنوان «ريحة شتي» (2005). تضمّ الأسطوانة ست أغنيات كتب نصوصها «شاعر الشتي» (لعله اللقب الأفضل لطلال حيدر)، تحمل ألحانها توقيع مجموعة من المؤلفين اللبنانيين هم الراحل زكي ناصيف وإيلي شويري وشربل روحانا... إضافةً إلى الملحِّن المصري صلاح الشرنوبي. أمّا الأغنية التي أعطت اسمها للألبوم، فتولّت تلحينها غادة بنفسها في أوّل تجربة لها في هذا المجال. ويمكن اعتبار هذه الأسطوانة نقيضاً نموذجياً للموجة الفنية السائدة. فالألحان متجانسة تجانس مستوى واضعيها، أمّا قصائد طلال حيدر فخارج التصنيف. ليست المرة الأولى التي تكون فيها كلمات أفصح شعراء العاميّة اللبنانيّة، خميرة لأغنيات جميلة. وكما يظهر من عنوان الألبوم، شاعرنا مغرم بالطبيعة عموماً، وقلما غاب «الشتي» عن شعره: «بْغَيبْتِك نِزل الشتي» (مرسيل خليفة)، «...صرِّخْ عَليْهن بالشتي» (أغنية «وحدن» فيروز / زياد الرحباني)، «دوَّرْت إيام الشتي» (رونزا ثم لطيفة / زياد الرحباني)...
آخر أعمال غادة غانم صدر الشهر الماضي، وتستعيده بعد غدٍ، كما ذكرنا في أداءٍ حيّ في الأونيسكو. Ave Maria ألبوم ذو هوية محدّدة، تجمع في جوهرها صفات خاصة بكل عمل غنائي ورد فيه (الحقبة، الشهرة، المرافقة الموسيقية...) وصفتين مشتركتين بين كل الأعمال. الأولى تكمن في النوع الموسيقي المحصور بقالب ضيّق، وهو الموسيقى الدينية الغنائية الكلاسيكية (التي تفرض أيضاً وحدة أسلوب الأداء الصوتي، أي استخدام تقنية الغناء الأوبرالي). والثانية تكمن في وحدة النص المشترك بين هذه المؤلفات، أي الصلات المسيحية الشهيرة إلى العذراء «السلام عليكِ يا مريم». ويمكن استنتاج ميزة مهمة لهذا الألبوم، هي أنه ناتجٌ من عملية بحث معمَّق عن هذه الأعمال في الإرث الموسيقي الكلاسيكي، غاصت في القديم ولم تغفل الحديث.
تبدع غادة غانم في مجال سبقها إليها فنّانون كبار في العالم، فهناك ألبومات عدة في العالم مخصصة لهذه الأعمال، وتحمل العنوان نفسه. يحتوي ألبوم غادة غانم الجديد على 17 Ave Maria تنوعت بين البديهي لمؤلفين مشهورين... وغير المألوف لمؤلفين مغمورين. في القسم الأول، نجد طبعاً تواقيع النمساوي فرانتز شوبرت، صاحب أشهر Ave Maria في التاريخ، والإيطالي لويجي كاتشيني (أقدمهم)، والفرنسي شارل غونو الذي لم يُذكر اسم باخ الكبير إلى جانب اسمه، علماً أنّه لم يقم سوى بتوليف عمل للكلافسان من تأليف هذا الأخير... إضافة إلى كيروبيني وماسكانيي وفيردي وفوريه وسان ــــ سانس وغيرهم. وفي القسم الثاني نجد أسماءً مغمورة (وأعمال جميلة بالمناسبة) مثل فرانتس آبت (ألمانيا)، وفرانسيسكو سانتياغو (الفيليبين)، وماري كوداما (اليابان)،... أما المرافقة الموسيقية لأداء غادة غانم، فتولتها أولغا بولُن (بيانو)، ونارينيه هاروتونيان (كمان)، وروزانا باندجاريا (تشيلّو).

أمسية غادة غانم : 8:00 مساء الإثنين 5 أيار (مايو) الحالي ــــ قاعة قصر الأونيسكو: 01،786680
www.ghadaghanem.com




بنات رتيبة الحفني

في فنّ الغناء، هناك تقنيتان كلاسيكيتان لاستخدام الصوت، أضيفت إليهما في السياق المعاصر طرقٌ أخرى ما زالت محصورة في بعض الأنماط الموسيقية ذات المنحى التجريبي (إجمالاً)، وخصوصاً في الجاز الحديث والموسيقى الكلاسيكية الحديثة. اعتُمِد الأداء الأوبرالي في الأعمال الغنائية المنتمية إلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية الأوروبية، وهي تشمل أيضاً أشكالاً أخرى كالأغنيات والأعمال الدينية... أمّا المدرسة الثانية فهي معتمدة في كل الأنماط الغنائية الأخرى.
في لبنان والعالم العربي، بقيت تقنية الأداء الأوبرالي قليلة الرواج، لأسباب مرتبطة على الأرجح بطبيعة الغناء الكلاسيكي في الثقافة العربيّة ــــ الإسلاميّة. قلّة من المغنيات اللبنانيات قاربت الأداء الأوبرالي. إضافة إلى السوبرانو غادة غانم، نذكر أبرز الأسماء كالفنانة هبة قواس (في جزء من الأعمال التي تؤلفها وتؤديها)، والميدزو ــــ سوبرانو الغائبة عن الساحة الفنية منذ مدة طويلة فلافيا عكرا، وهي صاحبة تسجيلات لمقتطفات (أرياز) من أعمال أوبرالية شهيرة، وخصوصاً تلك العائدة إلى حقبة الباروك (فيفالدي، سكارلاتي، هاندل، لولي، كالدارا،...). ولفاديا طنب ــــ الحاج تجارب عدة في هذا المجال، آخرها «الآلام العربية» وهو عمل يتألف من النسخة العربية لمقتطفات من عملي باخ الشهيرين، «الآلام بحسب إنجيل متى» و«الآلام بحسب إنجيل يوحنا». لكن فاديا اشتهرت أيضاً بإلمامها بتراث الغناء العربي القديم، وخصوصاً الإنشاد الديني والموشحات. ويبقى السؤال بالنسبة إلى مغنيات الأوبرا العربيات (وربّما كانت عميدتهنّ الفنانة المصريّة رتيبة الحفني): كم هي صعبة مهمة إيصال صوتهن إلى الجمهور العربي والغربي معاً... من دون اللجوء إلى تجارب من خارج النوع الأوبرالي؟ فالجمهور الأول ينفر إجمالاً من الأداء الأوبرالي، لأنه آت من خارج ما ألفته أذنه على مدى قرون، والجمهور الثاني لديه من الأصوات الأوبرالية الأسطورية في عالمه ما يلبّي رغبته وأكثر!