strong>عيران ريكلس مخرج «العروس السورية»، يسلّط الضوء في فيلمه الجديد على مظالم الاحتلال وسياسة التفرقة العنصرية في إسرائيل. ويلجأ مجدداً إلى السخرية السوداء لإبراز مفارقات الكيان الصهيوني بين الخطاب الديموقراطي والعقلية الاستيطانيّة
عثمان تزغارت
في فيلمه السابق «العروس السورية»، صوّر السينمائي الإسرائيلي عيران ريكلس، قبل ثلاث سنوات، معاناة سكان الجزء المحتلّ من الجولان، من خلال قصة عروس تزفّ إلى زوج من أقاربها يقيم في الجهة المقابلة (غير المحتلة) من الهضبة. واتخذ من تلك القصة منطلقاً لإظهار سريالية الوضع الذي أفرزه الاحتلال. فعلى رغم أنّ الخطيبين ينتميان إلى قبيلة درزية واحدة، ونشآ في البيئة ذاتها، ولا تفصل بينهما سوى بضعة مئات من الأمتار، إلّا أنّ زاوجهما يمثّل للعروس تمزقاً قاسياً، لأنّها تدرك أنّها بعبورها الحدود إلى الضفة الأخرى للالتحاق بزوج المستقبل، تكون قد قطعت أواصر الاتصال مع أهلها وأقاربها، لأنها ستصبح «سورية» في منظور سلطات الاحتلال، فتضطرّ، كعادة سكان الجولان، إلى التواصل مع ذويها من وراء الحدود، عبر مكبّرات الصوت...
في «أشجار الليمون» الذي يُعرض حالياً على الشاشات الأوروبيّة (جائزة الجمهور في مهرجان «برلين» الأخير)، يستعير ريكلس القالب التراجي ــــ كوميدي ذاته، ليسلّط الضوء على بشاعات الاحتلال ـــ هذه المرة في الضفة الغربية ــــ وما تفرزه العقلية السبارطيّة العسكرية المتغطرسة من مفارقات كاريكاتورية فاقعة... يروي الشريط قصة أرملة فلسطينية تدعى سلمى زيدان، تؤدي دورها الممثلة الفلسطينية هيام عباس التي قامت ببطولة «العروس السورية» (راجع «شخصيّة اليوم» إلى اليسار). وهي هناك تقدّم أحد أجمل أدوارها منذ «الساتان الأحمر» (Satin Rouge للتونسية رجاء عماري). تعيش سلمى منذ وفاة زوجها من حقل أشجار الليمون الذي ورثته عن والدها. لكن سياسات الاحتلال، والأساليب الملتوية لضم مزيد من الأراضي الفلسطينية، بحجة بناء جدار الفصل، تضع فجأةً ليمون الأرملة على خط التماس الحدودي مع إسرائيل. ويزداد الوضع حساسية مع حلول وزير الدفاع الإسرائيلي للإقامة قبالتها. وإذا بأشجار الليمون تتحوّل تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي، فيأمر البوليس السري باقتلاعها خشية أن يتخفّى وراءها «إرهابيون» لاغتيال الوزير.
تلجأ سلمى إلى القضاء مستعينةً بالمحامي الفلسطيني زياد الذي يوصل القضية إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، ويجعل من مصير أشجار الليمون المهدّدة بالاقتلاع قضيةً مدوّيةً تشغل الرأي العام العالمي. عبر هذه المعركة القضائية، يبرز الفيلم تناقضات الدولة والمجتمع الإسرائيليين. فخلف الواجهة الديموقراطية المزعومة التي تسمح لمواطنة فلسطينية بمقاضاة السلطات العسكرية الإسرائيلية، يفضح الشريط عقلية عسكرية متسلّطة لا تعير اهتماماً لأي وازع أخلاقي أو قانوني، فيصبح منطق القوة المقياس الوحيد السائد، تحت مبرّر «مقاومة الإرهاب».
هكذا يتبجّح وزير الدفاع الإسرائيلي، في نيويورك، بالديموقراطية الإسرائيلية التي تكفل لجارته الأرملة الفلسطينية المستضعفة أن تقاضيه أمام المحكمة العليا، لكنّه لا يتردّد في الاعتداء على ممتلكاتها، بعيداً عن أعين الكاميرات... لا يخلو الفيلم من اللقطات الساخرة التي تبرز ما يتسم به الموقف الدولي حيال الصراع الفلسطيني ــــ الإسرائيلي من نفاق، وازدواجية في المعايير. فبينما تصل قضية أشجار الليمون إلى الأمم المتحدة، وتأتي من أوسلو لجنة تضامنيّة خاصة، لا يلتفت أحد إلى المعاناة والإهانات اليومية التي يتعرّض لها آلاف الفلسطينيين عند نقاط التفتيش التابعة للاحتلال.
على صعيد اللغة السينمائية، يغرف عيران ريكلس كما في «العروس السورية»، من عوالم المعلّم الإيراني عباس كياروستامي، وأسلوبه المينيمالي في الغوص في التفاصيل الصغيرة التي تختزل المضامين الفكرية الصعبة، بعيداً من أي نبرة خطابية. وهذه التأثيرات الأسلوبية لا تمثّل استثناءً: فأعمال العديد من «السينمائيين الجدد» في إسرائيل، أمثال عيران ريكلس وإيتان فوكس وكيرن ييدايا، تتقاطع في عوالمها وسماتها الأسلوبية مع تجارب أساسيّة في السينما الإيرانيّة، لأمثال كياروستامي وجعفر بناهي ومحسن مخلباف...
أما نهاية الفيلم، فتذكّر بسينما عمّوس جيتاي في تجاربه الأولى، وبالأخص في ثلاثية «بيت»، من حيث اللجوء إلى أسلوب التورية الرمزية لإبراز المأزق السياسي والأخلاقي الذي تتخبّط فيه إسرائيل. بعد الضجة العالمية التي أثارتها قضية «أشجار الليمون»، تتراجع المحكمة العليا الإسرائيلية عن اقتلاعها، وتأمر بقطعها على مستوى الجذع فقط. ما يحرم سلمى مصدر دخلها الوحيد لمواسم عدّة. لكنّ الأهم أن أشجارها لم تُقتلع من جذورها، وبالتالي فالأمل يبقى بأنّها ستنمو مجدداً.
في المشهد الأخير، يجد وزير الدفاع الإسرائيلي نفسه وحيداً ومعزولاً. إذ تهجره زوجته لأنّها لم تعد تحتمل الظلم الذي لحق بجارتها الفلسطينية. وحين يكتمل بناء الجدار العازل الذي يفصله نهائياً عن الجارة الفلسطينية، يكتشف الوزير المتسلّط بمرارة أنّه صار سجيناً وراء ذلك الجدار الذي أمر ببنائه لمحاصرة «الآخر» الفلسطيني. وبينما يلقي بنظرة عبر ثقب الجدار إلى الجهة المقابلة، يكتشف أنّ سلمى استعادت حريتها في التنقّل وسط حقلها، وأنّها سعيدة لأن ليموناتها بدأت تورق من جديد!


صورة الفلسطيني أفلتت من فخّ التنزيه

يتميّز فيلم «أشجار الليمون» بنظرة إلى «الآخر» ــــ أي الفلسطيني ــــ جديدة نسبياً على السينما «التقدميّة» الإسرائيليّة. فهو، على غرار العديد من أعمال «السينمائيين الجدد» في إسرائيل، كـ«الفقاعة» لإيتان فوكس، و«انسحاب» لعمّوس جيتاي، و«زيارة الفرقة الموسيقية» لعيران كوليرن، وغيرها (راجع مقالة أخرى أسفل الصفحة)، يسلّط على المجتمع الفلسطيني النظرة النقدية ذاتها التي يسلّطها على المجتمع الإسرائيلي.
هذه السينما الإسرائيلية الجديدة ــــ وإن كانت معادية للصهيونية أحياناً، وللاحتلال غالباً ــــ لم تعد تنزّه الفلسطيني، وتسجنه في صورة مثالية مبالغ بها كما في سينما الثمانينيات، باعتبار أنّه الضحية، وبالتالي فيه كل مقوّمات «البطل الإيجابي»... وإن كانت هناك من عيوب، فإنّ سببها الوحيد هو الاحتلال!
صورة الفلسطيني في «أشجار الليمون» صارت أكثر واقعية. فالفيلم الذي يدين الاحتلال بصراحة، صوّر أيضاً فساد السلطة الفلسطينية التي تريد استغلال قضية ليمونات سلمى سياسيّاً، لكنّها لا تفعل شيئاً لمؤازرتها. وحين تذهب سلمى لمقابلة أحد وزراء السلطة، بناءً على موعد مسبق، تُفاجأ بأنه ألغى المقابلة من دون إعلامها، وسافر إلى موعد مهمّ في القاهرة!
أما عائلة زوج سلمى المتوفى، فتنصحها بالتخلي عن أشجارها والاكتفاء بالمئة دولار التي يرسلها لها ابنها شهرياً من أميركا. لكن ما إن تنتشر شائعات عن علاقة مشبوهة بين سلمى ومحاميها، حتى يهبّ رجال العائلة دفاعاً عن شرف المرحوم! والمحامي نفسه، يتضح في النهاية أنّ اهتمامه المبالغ بسلمى كان مزيّفاً. فكل همّه الحصول على الشهرة. وبمجرد أن ربح القضية أمام المحكمة العليا، وأصبح بطلاً تتنازعه الفضائيات العربية، حتى انقطع عن زيارة سلمى التي تكتشف لاحقاً أنّه أصبح مستشاراً كبيراً لدى السلطة الفلسطينية، وتزوّج ابنة أحد وزرائها!


شخصية اليوم

هيام عبّاس على أبواب هوليوودقبل أن تقفز هذه الفنانة المولودة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948 (قرية دير حنا في الجليل)، إلى مصاف النجومية العالمية، لفتت الأنظار في مهرجان «كان» السينمائي عام 1995، بأدائها المميز في فيلم «حيفا» لرشيد مشهراوي. لكن الفنانة التي درست فنّ التصوير، وبدأت ممثّلة في المسرح مع فرنسوا أبو سالم في الثمانينيات («الحكواتي» المقدسي)، كانت قد مثّلت في إدارة ميشيل خليفي قبلها بسنوات (فيلم «عرس في الجليل» ــــ 1987)... بعد مشهراوي، أسندت إليها المخرجة التونسية رجاء عماري بطولة فيلمها الشهير Satin Rouge (الساتان الأحمر) الذي كرّس نجومية عباس أوروبياً، انطلاقاً من فرنسا، حيث تقيم منذ قرابة عشرين سنة، إثر ارتباطها بالنجم السينمائي المغربي الأصل زين الدين سوالم.
بعد عشر سنوات من اكتشافها في «كان»، عادت هيام عباس إلى الأضواء على الكروازيت عام 2005، من خلال ثلاثة أفلام بارزة في تلك الدورة: «منطقة حرة» لعمّوس غيتاي، و«الجنة الآن» لهاني أبو أسعد، و«العروس السورية» لعيران ريكلس الذي تعاود معه الكرّة حالياً مع «أشجار الليمون». وفي «كان» أيضاً، تعرّفت إلى السينمائي المكسيكي ألخاندرو غونزاليس إيناريتو الذي طلب منها العمل إلى جانبه مخرجةً مساعدة للإشراف على التدقيق اللغوي وعلى تدريب الممثلين في فيلمه «بابل» الذي تجري بعض مشاهده في المغرب.
قبلت هيام عباس بالتحدي. ففضلاً عن أصولها العربية وارتباطها بممثل مغربي، مثّلت في أفلام مغاربية عدة، منها «العيش في الجنة» للجزائري بوعلام غرجو، و«علي، ربيعة والآخرون» للمغربي أحمد بوعلان، إلى جانب أفلام فرنسية عدة صُوِّرَت في المغرب، ومنها «طفل الشعابة» لكريستوف روجيا، و«معمل العواطف» لجدان مارك موتو...
التجربة التي خاضتها في «بابل» شجّعت ستيفن سبيلبرغ على الاستعانة بها للغرض ذاته في فيلمه «ميونيخ»، حرصاً على الدقة اللغوية في المشاهد الناطقة بالعربية، وتفادياً لأي أخطاء قد تُعَدّ إساءة للمعتقدات الدينية في الفيلم. ولم يلبث سبيلبرغ أن أسند إليها دور ماري ــــ كلود الهمشري، أرملة محمود الهمشري الذي اغتالته المخابرات الإسرائيليّة في باريس عام 1973 بعد عمليّة ميونيخ. ومن دون تخطيط مسبق، وجدت نفسها تخوض تجربتها الأولى في السينما الأميركيّة، ما فتح لها أبواب البطولة المطلقة مع جارموش مخرج «أغرب من الجنّة» و«ليلة على الأرض».


«السينمائيّون الجدد»، أو الوعي الشقي للأيديولوجيا الصهيونيّة مخرج «أشجار الليمون» عيران ريكلس أحد رموز هذا الجيل من «السينمائيين الجدد». عرف الشهرة العالمية بفضل «العروس السورية» (2005)، لكنه شدّ الجمهور الإسرائيلي منذ فيلمه الأول «نهائي الكأس» (1993) الذي أثار جدلاً كبيراً في إسرائيل، كأول فيلم تناول من منظور نقدي اجتياح لبنان صيف 1982. يدور الفيلم حول جندي احتياط إسرائيلي كان يستعدّ للسفر إلى إسبانيا لمتابعة مونديال كرة القدم، حين يتبلّغ استدعاءً من الجيش ويُرسل للمحاربة في لبنان. هناك يقع أسيراً لدى مقاتلين فلسطينيين وتنشأ علاقة صداقة غريبة بينه وبين حارسه الفلسطيني، لأن كليهما يناصر منتخب إيطاليا في المونديال. وبفضل تلك الصداقة، يعود الجندي إلى بلاده بعد الحرب ليصبح عضواً ناشطاً في حركات السلام.
ومن اجتياح لبنان واحتلال الجنوب على مدى 18 عاماً، استوحى الإسرائيلي جوزف سيدار فيلمه «قلعة الشقيف» Beaufort الذي حقّق أكبر الإيرادات في الصالات الإسرائيلية العام الماضي، ورُشِّح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي لسنة 2008. وهو يعرض حالياً بنجاح في الصالات الأوروبية. كل هذا النجاح لم يحصّنه من انتقادات الإعلام والمؤسسات الثقافية الرسمية في إسرائيل، لأنه تجرّأ على تصوير عزلة جنود إسرائيليين شباب أوكلت إليهم مهمة حماية موقع عسكري في قلعة الشقيف في الجنوب اللبناني، ليجدوا أنفسهم في مواجهة هجمات «عدوّ» غير مرئي... حتى تحطيم الموقع على يد المقاومة اللبنانية.
من رموز هذا الجيل من السينمائيين الإسرائيليين أيضاً، إيتان فوكس الذي عرف الشهرة العالمية بفضل النجاح الذي حقّقه فيلمه «الفقاعة» الخريف الماضي. هو الآخر عرف إقبال الجمهور الإسرائيلي وانتقادات الـ «إستبلشمنت» السياسي منذ عمله الأول «ستمشي على الماء» الذي يتمحور حول المثلية الجنسية لأحد «أبطال» الموساد.
الانتقادات ذاتها واجهت «زيارة الفرقة» لعيران كوليرن، وحرمته الضغوط الرسمية الإسرائيلية الترشيح للأوسكار، بحجة أنّه غير ناطق بالعبرية! لكنّ ذلك لم يمنعه من تحقيق نجاح شعبي داخل إسرائيل وخارجها. أما عمّوس جيتاي، فوصلت الانتقادات الرسمية لفيلمه الأخير «انسحاب» حد المطالبة بسحب الجنسية الإسرائيلية منه.
نجاح كل هذه الأفلام في الوصول إلى الجمهور الواسع في إسرائيل، رغم الموقف العدائي من المؤسسات الثقافية الرسمية، يسلط الضوء على مفارقة فاقعة في الحياة الثقافية الإسرائيلية. ويتضح ذلك في استطلاع أجرته أخيراً مجلة «فاريتي» السينمائية الأميركية. إذ بيّن أن نصيب الأفلام المحلية التي تُعرض في الصالات الإسرائيلية ارتفع من 0,3 إلى 10 في المئة خلال العشرية الأخيرة، بفضل الأعمال الإشكالية لـ«السينمائيين الجدد» الإسرائيليين المناوئين لسياسات الاحتلال والقهر والعنف الدموي التي مارستها الحكومات المتعاقبة بحق الشعب الفلسطيني. فأبرز عشرة أفلام أقبل الجمهور الإسرائيلي على مشاهدتها خلال السنوات الخمس الأخيرة هي: «أرض الميعاد» و«منطقة حرة» (عمّوس جيتاي)، و«ستمشي على الماء» و«الفقاعة» (إيتان فوكس)، و«العروس السورية» و«أشجار الليمون» (عيران ريكلس)، و«أور» (كيرن ييدايا)، و«من أجل واحدة من عينيّ الاثنتين» (آفي مُغربي)، و«عظام مكسورة» (نير بيرغمان)، و«قلعة الشقيف» (جوزف سيدار)...
فهل يعكس هذا الإقبال على أفلام السينمائيين الإسرائيليين الجدد ولادة وعي نقدي إسرائيلي تجاه الإيديولوجيا الصهيونية؟ أم أنّه مجرد مفعول عكسي للحملات التي يتعرّض لها هؤلاء المخرجون، فتولّد لدى الجمهور فضولاً متزايداً لاكتشاف هذه الأعمال المثيرة للجدل؟