محمد خيربسبب حداثة عمرها، وتأسيسها القريب نسبياً، لم تتعوّد الفضائيات العربية على الألفاظ الآتية من قواميس «الحرب الأهلية». بين السبعينيات حتى أوائل التسعينيات، لم يكن الأثير قد عرف البث المتخطي للحدود. الإنترنت أيضاً كانت في سياق المعادلة نفسها. وحدها الصحافة الورقية عجوز بما يكفي للتعامل مع التناحر اللبناني بخبرة كافية. لكنّ الصحافة المكتوبة مثلها مثل الفضائيات محكومة بالمواقف والتوازنات والتمويل وحدود السياسة. وهي في لبنان، تتصرّف وفق موقعها من أتون النار. وفي العالم العربي تتصرف وفق انتمائها إلى محاور «الاعتدال» و«التطرف»، وغير ذلك من مسمّيات يتغيّر معناها، وجدواها، باختلاف التوجهات السياسية. حتى لو أدّى بها ذلك إلى تبني أخبار «ليست مؤكدة بعد»، كما يقول التعبير الذي رسخته الفضائيات.
«أنباء غير مؤكدة» هو تعبير يكاد يفرغ الخبر من أهميته، ويربك المشاهد والمراقب، وقد يؤدي إلى ردود أفعال على فعل لم يقع أصلاً. المراسلون يصفون الخبر بأنه «غير مؤكد» على اعتبار أنّهم بذلك يلتزمون المهنية، ولن يعترف أحدهم بأن التنافسية والرغبة في السبق هما السبب. «الأنباء غير المؤكدة» يمكن للشاشة الفضائية نفيها بعد دقائق. والأمر أيضاً بالنسبة إلى مواقع الإنترنت، لكن ماذا لو تسربت «الأنباء» إلى الصحافة المكتوبة؟ يصبح لها آنئذ قوة الحبر وسطوة الحقيقة، تماماً كالخبر الذي أوردته صحيفة «الأهرام» المصرية: «وقد هبطت طائرة إيرانية فجر أمس في مطار بيروت‏‏ بشكل مفاجئ‏، وسهّل أنصار «حزب الله» خروج الركاب ونقلهم إلى الضاحية الجنوبية من دون أن يعلم أحد مَن هم وماذا يحملون». بشكل عام، تصلح الصحافة المصرية نموذجاً فاعلاً لدى الحديث عن تغطية الصحافة العربية المحلية «غير اللندنية». إذ إنّها تصدر في أكثر البلدان العربية تنوعاً صحافياً / سياسياً (إضافة إلى لبنان بطبيعة الحال). وبينما اعتمدت «الأخبار» المصرية الحكومية بدورها على مصادر تيّار «المستقبل» في ترجمة «أمينة» للموقف الرسمي المصري، كان ثمة مقابل اعتماد شبه تام على وكالات الأنباء من الصحافة المصرية المستقلة. وإن كانت الأخيرة بدورها تلوّنت بألوان الطيف، إذ بدت صحيفة «المصري اليوم» محايدة لم تعلن موقفاً، وتعاطفت «الدستور» نسبياً مع المعارضة بصورة غير مباشرة ولكن مبتكرة، فاستخدمت مانشيت ترجمت فيه تصريحات نصر الله إلى العامية المصرية «لو أبويا نفسه تعرض لشبكة أو سلاح المقاومة لن أسمح له». أما «البديل» المُنتمية إلى اليسار الديموقراطي فقد اتسقت مع مواقفها السابقة، ورأت أنّ نصر الله «يهدد بالحرب الأهلية».
ربما ما زالت الفضائيات العربية تجرّب نفسها في أول قتال شوارع في عاصمة عربية. وعلى رغم جرأة المراسلين وحرفية معظمهم، تترك الحسابات والانتماءات شكّاً دائماً في صدر المشاهد العربي واللبناني، فلا يستطيع الرّكون مطمئناً إلى شاشة واحدة. فبينما كانت كاميرا «الجزيرة» تنقل أمس محيط تلفزيون «المستقبل» خالياً إلا من الجيش، كانت «العربية» تؤكد اقتحام المؤسسة من خلال صور آثار حريق الجريدة. وبينما كانت شاشة محلية تشرح أنّ المحطة أوقفت بثها لاحتياطات أمنية، كانت شاشة أخرى تؤكد أن المحطة «أُجبرت» على وقف البث... ربما تخوض الفضائيات اختباراً جديداً، لكنها ما زالت تحمل التكوين نفسه الجيني لجسد السياسة العربية التي لا تأتي بجديد.