في خضم الصراع الذي يعيشه لبنان اليوم، مَن يذكر وثيقة تنظيم البث الفضائي التي أقرّها وزراء الإعلام العرب قبل 3 أشهر... الوثيقة التي اشترطت «الامتناع عن التحريض» و«الالتزام بالصدق والدقّة»، كيف يُمكن أن تطبَّق في بلد، يشهد معركة على الأرض وأخرى على الأثير؟
محمد خير

نام المشاهد مطمئنّاً إلى توقُّف الاشتباكات المسلّحة في طرابلس، وانتشار الجيش في المدينة الشمالية. ولما استيقظ صباحاً وفتح التلفزيون، فوجىء بأن الاشتباكات قد تجددت. وقبل أن يواصل اكتئابه يكتشف أن ثمة خطأً ما: الاشتباكات توقفت فعلاً، وكل ما في الأمر أن شريط الأخبار على الشاشة لم يتمّ تحديثه منذ الأمس، أو أن الأخبار الجديدة اصطفت في الشريط إلى جوار القديمة من دون أن تُستبدل بها. بعد أيام عدّة من «المتابعة»، تختلط الأمور وفقاً لسرعة كل قناة ـ ونيّاتها ـ في تحديث الشريط الإخباري وصياغته. في الإعلام كما في الحروب: أهمية المعلومة تُبنى على دقّة توقيتها، فكيف الحال، ولبنان يشهد معركة على الأرض ومعركة على الأثير؟ حرب إعلامية وإعلام حربي، مؤتمر صحافي كلّ ساعة، وبيان كل عشر دقائق، وشائعة في كلّ ثانية...
تُرى من يتذكَّر ــ في خضم معركة لبنان الإعلامية ــ وثيقة تنظيم البثّ الفضائي التي وقّعها وزراء الإعلام العرب قبل ثلاثة أشهر؟ إنها الوثيقة التي استخدمت بسرعة لا يعهدها العرب إلا في المصائب. الوثيقة التي صدق وعدها ــ «والصدق شر إذا ألقاك في الكرب العظام» كما يقول المتنبي ــ فجرى منع بث إحدى القنوات، والتضييق على قنوات أخرى، وتحذير برامج ووضع خطوط حمر تحت موضوعات معيّنة، وحماية «الرموز». لكن أحداً من أولئك الوزراء لم يحاول الانتصار للبنود التي حفلت بها الوثيقة. بدءاً من «الامتناع عن التحريض على الكراهية أو التمييز القائم على أساس الأصل العربي أو اللون أو الجنس أو الدين»، وقد نضيف «المذهب» إلى «احترام حق الآخر في الرد». ولعلّ من أهم البنود التي دهسها الأداء الإعلامي أثناء تغطية الصراع في لبنان، هو الفقرة السابعة من البند السابع التي دعت إلى «الالتزام بالصدق والدقة في ما يبثه الإعلام من بيانات ومعلومات وأخبار، واستقاؤها من مصادرها الأساسية السليمة، وتحرّي ذلك في الأشكال الإعلامية كافة، والالتزام بتصويب كل معلومة خاطئة أو ناقصة قُدّمت من قبل، مع الاحتفاظ بحق الرد للشخص أو الدولة أو الجهة صاحبة الحق في ذلك».
تُرى كم محطة صوّبت أخطاءها؟ وكم قناة التزمت بتقديم الرأيين على الحياد أو بأكبر قدر متاح من التوازن؟ كم إعلامي التزم عدم بث الأنباء التي لم تتأكد بعد، وامتنع عن التحريض؟ وكم سؤال في المؤتمرات الصحافية اللانهائية لم يدمج الرأي في السؤال؟ وكم كان مدى صعوبة فصل رأي القناة ــ أو أصحابها ـ عن التقارير الإعلامية؟ وكم محطة لم تعتبر نفسها سلاحاً في يد المقاتلين؟ وإلى أي درجة كان يمكن التفرقة بين شاشة إخبارية وبين منصّة لإطلاق الرصاص، وبين التصريحات الإعلامية وبيانات التوجيه المعنوي التي تصدرها القوات العسكرية؟
هي أسئلة ربما لا بد أن يهتم لها وبها الإعلاميون العرب منذ الآن، وقبل أن يضع الصراع أوزاره. ومع ذلك، فالمشهد لا يخلو من إيجابيات، وأهمها التضامن غير المشروط الذي أبدته مختلف المحطات ووسائل الإعلام مع قناة «المستقبل» أثناء إغلاقها، وضدّ التعدي على الإعلام. إضافة إلى ذلك، أثبت مراسلو الصحافة والتلفزيون العرب مرة جديدة شجاعة في اقتحام مكان الصورة مهما كان الخطر، ومهما انهمر الرصاص والقذائف. وإذا بهم يتفوّقون في أي مقارنة مع مراسلي تلفزيونات غربية، اختبأوا في الدبابات الأميركية أثناء غزو العراق... وإسرائيليين كانوا ذيولاً لجيش الدفاع أثناء تسلله داخل الجنوب في عدوان تموز. أما في بيروت، فلم تجد CNN غضاضة في أن تنقل المعارك من على شاشات القنوات العربية، بعد أن تضع اللوغو الأميركي فوق نظيره العربي. وكانت مراسلة «بي بي سي العربية»، شديدة «الموالاة» أثناء توجيه أسئلتها لسعد الحريري. ذلك أنها طرحت سؤالاً متحيزاً في صياغته، تحدثت فيه عن «دور الدولة في مواجهة دويلة حزب الله ذات البعد الإقليمي». وذلك على رغم الأداء المتوازن إجمالاً الذي افتقر إلى لمعة خاصة لتلفزيون «بي بي سي» العربية، فيما بدت «فرانس 24 « كأنها تدار مباشرة بواسطة ساركوزي.
على قدر الاحتدام والتزاحم في المشهد الفضائي العربي، فإن الأحداث تتسع وتتفاقم بما يسبق سرعة النمو الإعلامي، والإخباري منه بشكل خاص. وكان ملحوظاً خلال الأيام الماضية اشتعال الصراع المسلح في ثلاثة بلدان عربية مرة واحدة: لبنان، والمتمردون ضدّ الحكومة في السودان، والحوثيون ضدّ الحكومة اليمنية. إضافة إلى الأحزان المستديمة في العراق وفي غزة. لكن الاختبار الإعلامي الشاق يعد هيناً في مقابل الاختبار السياسي وضغوط الأنظمة، وكلاهما (الإعلامي والسياسي) معركت خاسرة حكماً، إذا لم ينجح خيار المهنية.


معجزات إعلامية

النقاش عن مدى التزام الفضائيات العربية بالمعايير المهنية، لا بد من أن تستثنى منه قناة «العربية». المحطة الشهيرة التي كانت يوماً قناة إخبارية، قبل أن تتحول تدريجاً إلى تلفزيون للمنوعات الترفيهية والاقتصادية، واصلت أثناء الصراع الآني في لبنان، مسلسل تدهورها على سلالم المهنية. وحققت أشكالاً أكيدة من «الإعجاز» الإعلامي. إذ «نجحت» بألا تستضيف أي صوت من المعارضة اللبنانية، أو أي رأي قريب منها، أو معبراً عنها، أو مؤيداً لها، أو أي صوت يحاول أن يكون موضوعياً، أو حتى يدّعي الموضوعية. وانسحب ذلك أيضاً على الموقع الإلكتروني «العربية. نت» الذي لم ينشر من مختارات الصحافة، إلا مقالات تصب النار على طرف دون آخر. وعلى رغم أن «العربية» معروف عنها أنها لا تستضيف أي معارض لأي نظام عربي، اللهم إلا «المعارض» عبد الحليم خدام، حتى استحقت اللقب الذي أطلقه عليها بعضهم (قناة «الأنظمة» العربية)، تبقى إتاحة مساحة للصوت الآخر من ضرورات «الحبكة» على الأقل. غير أن ساحة «الحرب» انفتحت بسرعة وضراوة لم تسمح للمحطة حتى ببعض التنكر، ويبدو أنه لا بد من عدم استبعاد الاحتمال الذي يقضي بأن الخطأ خطأ المشاهد. إذ عندما تأسست «العربية» بغية تقديم إعلام «معتدل»، لم يكن المشاهد قد استنتج أن الاعتدال هنا صفة عائدة إلى محور «المعتدلين العرب». لكنّ المشاهد معذور، فذلك المصطلح لم يكن قد ظهر بعد آنذاك.