إنّها الشاهدة على عصر ذهبي كان للطرب فيه موقع الصدارة، من القاهرة إلى بيروت مروراً بتونس وبغداد. صاحبة التجربة الغنيّة والموهبة الفريدة، انزوت في عزلة النسيان. حكاية استثنائيّة هي مادة فيلم سينمائي قيد الإنجاز
شيرين أبو شقرا

هذه الأيام في أحد مستشفيات بيروت، تصارع من أجل الحياة... ولا شكّ في أن شريط تلك الحياة الاستثنائيّة يعبر أمام عينيها. إنّها وداد تلك الفنانة التي لم يعد يغمرها الضوء، كانت في السنوات الأخيرة تقضي أوقاتها جالسة على كنبة في ركن من الصالة تسمّيه ابنتها ريما «المربع الأمني». أمامها طاولة عليها كوب نسكافيه، ومنفضة تتراكم فيها أعقاب السجائر، وجهاز التحكم عن بعد تقلّب به قنوات التلفزيون بين نشرات الأخبار في مواعيدها وقنوات الطرب.
الزيارات تتوالى طوال اليوم، لكنّ المطربة اللبنانية لا تتكلم كثيراً. تعليقاتها قليلة جداً نسبة إلى تجربتها. وحين تتكلّم، إنّما تفعل بصوت منخفض لكن واثق، تطغى عليه واقعيّة تقتل الرومانسية وتحوّلها إلى هذر. أما حين تشعر بالملل، فتسافر بسهولة في ماضيها، وتبحر في ذكرياتها. لا شك في أنّ حياتها الزاخرة بالأحداث تتيح لها ذلك.
هل «بتندم» على خوضها مغامرة الفنّ؟ صحيح أنّ «بيبي» تندم على تفويتها فرصة العمل في السينما، لكنّها لا تتنكّر لذلك التراث الموسيقي العريق الذي تنتمي إليه. عمها، عازف الكمنجة نسيم الأسود، تلقّى جائزة من كمال أتاتورك. وكان والدها فرج عواد، عواداً ومايسترو في فرقة منيرة المهدية قبل أن يغنّي مع بهية التي تُنسب إليها الأغنية الشعبية «عيون بهية».
وقع والدها في غرام شقيقة بهيّة، وهي المغنّية صالحة الإسكندرانية. هكذا، كوّنا معاً فرقة جديدة وسافرا إلى بغداد حيث افتتحا مطعماً أحيا فيه سهرات موسيقية وأطلقا عليه اسم «كليوباترا». ولدت وداد أو بهية عام 1931 خلال إحدى جولات والدتها الفنية في تونس. كان والداها يحييان خلال تلك الفترة أمسيات رمضانية عند الباشا الغيلاوي. فمنحاها اسم خالتها بهية.
بحكم عمل والديها، كانت حياة وداد حافلة بالترحال والتنقل بين العواصم العربية. في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، استقرت العائلة في بيروت. وبدأت وداد في الإذاعة الوطنية اللبنانية تغنّي السنباطي وليلى مراد وفايزة أحمد وعبد الحليم حافظ، ولمّا تبلغ التاسعة. ثم راحت تقوم بجولات فنية في لبنان وسوريا، حتى بلغت الخامسة عشرة. وحين سافرت برفقة والديها إلى القاهرة، تلقّت هناك عرضاً لتصوير تسعة أفلام كان يُفترض أن تجمعها بفناني العصر الذهبي في مصر من فريد الأطرش، ومحمد فوزي، وأنور وجدي، مروراً بفاتن حمامة... منعها والداها من توقيع العقد، ففرّت مع محمد عبده صالح، القانونجي في فرقة أم كلثوم الذي وعدها بأن يجعل منها نجمةً. لكنّ غيرته ما لبثت أن ظهرت بعد الزواج، وتوصّل والداها إلى استرجاعها منه بمساعدة أم كلثوم. وعندما أتمت الثامنة عشرة من عمرها، تزوجت من عبد الجليل وهبي ورزقت بولدين.
في أوائل الخمسينيات، كان اسمها لا يزال بهية وهبي نسبة إلى زوجها، الشاعر عبد الجليل وهبي. كانت تقضي نهاراتها في مقر الإذاعة اللبنانية. في أحد الأيام، جلست برفقة حليم الرومي وعاصي الرحباني تستمع إليهما يتناقشان بشأن مصير نهاد حدّاد، تلك الصبية التي تغنّي في الكورس وتجيد حفظ الأغاني. «ربما نأخذها إلى الشام؟ لكن علينا أن نجد اسماً فنياً لها. فماذا نسميها؟ ما رأيك بجواهر؟» وإذا بوداد تتدخّل: «هذا الاسم بشع». حسناً! «ما رأيك بفيروز؟» وافقت وداد قائلة: «إنه بالتأكيد أجمل».
بعد سنوات، عندما اقترنت بزوجها الثالث الموسيقار توفيق الباشا، راح الجميع في الإذاعة يبحثون عن اسم شهرة لبهية. سُحب الاسم بالقرعة خلال إحدى السهرات، وكانت فيروز التي أصبحت زوجة عاصي كما نعرف جيداً، هي التي سحبت الورقة، فإذا بالاسم الجديد يبصر النور: وداد.
لا يملك صوت وداد مساحةً عريضةً، بل يتميز بخامة فريدة من نوعها، تسمح لها بالتلاعب في أوتارها الصوتية أدق التلاعبات، وبمنتهى الرقة والأناقة. كان لدى عبد الوهاب أمنية الاستماع إلى صوتها من دون أوركسترا لشدة ما كان صوتاً خالصاً ومستقلاً ومكتفياً. إذ إنّ هذه المطربة تمنح المستمع فرصة ملامسة سيكولوجية المرأة ومزاجها المتقلب. فهي المراهقة والمرأة العاشقة والأخت والهاوية والموسوسة، الصديقة والجذابة واللعوب. وهذا النمط كان نادراً في تلك المرحلة التي كان فيها الغناء يطمح إلى إظهار جمالية الصوت، وليس البحث في النفس البشرية وإظهار تقلّباتها.
كثيرون كتبوا ولحنوا لوداد. لكنّ التعاون الأمتع، كما تقول، كان مع سامي الصيداوي الذي ربطتها به علاقة صداقة قبل أن تكون علاقة عمل. فقد كانا يتشاركان ويتناقشان لساعات في أمورهما الحياتية والشخصية، وعذابات الحب التي يمران بها. من هذه العذابات كان الصيداوي يستوحي ليكتب ويلحن، ووداد تغني، فأتت أغنيات «بتندم»، «يا ناعم»، «يسلملي الفهم»، «صبحتو وما ردّ»، «لا قلبي ولا بعرفك».
آخر إطلالات وداد «الفنية» كانت في اللقاء الذي نظّمته «دار المدى» قبل أشهر احتفاءً بتجربتها. يومها، سُئلت المطربة اللبنانية عن سبب توقّفها عن الغناء، فأجابت: «لأن الناس ما بقى يحبّوا الطّرب، صاروا يحبوا الضّرب».


يوم قالت «لا» لموسيقار الأجيال

اعتيادها الهروب من الرجال دفعها إلى ارتكاب أكبر خطأ في حياتها. حين دعاها محمد عبد الوهاب إلى أداء أغانيه القديمة بصوتها وتسجيلها، ترددت، بل طالبت موسيقار الأجيال بأن يقدّم لها ألحاناً خاصة بها، قبل أن تقوم بتأدية أغانيه القديمة. جرح ردّ فعل وداد كبرياءَ عبد الوهاب الذي امتنع منذ ذلك الحين عن التقدّم بطلب مماثل لأي فنانة أخرى... وضاع ذلك المشروع إلى الأبد.
«بتندم» قد تكون الأغنية التي تعبّر عن ندم وداد العميق على هذه الفرصة الضائعة. «لم أؤذ سوى نفسي»، تقول. لكن بعد سنين، ستعود لتسجّل بصوتها واحدة من أشهر أغنياته «من غير ليه». مع ذلك، لا نملك إلا أن نتساءل عن المنحى الذي كانت ستتخذه الموسيقى العربية لو كان هذا التعاون قد تم...
من بين من كتبوا لها سامي الصيداوي، زكي ناصيف، أسعد سابا، نزار الحر، عبد الجليل وهبي، أسعد السبعلي، علياء هوغو دالاتي، خليل الخوري. أما من بين مَن لحّنوا لها، فنذكر: سامي الصيداوي، زكي ناصيف، فيلمون وهبي، توفيق الباشا، سمير حلمي، حسن غندور، شفيق أبوشقرا، حليم الرومي، حبيب عازار...