كلا أيها الساذج، ليست ذكرى النكبة... إنّها ذكرى «قيام دولة إسرائيل». أنت لا تصدّق؟ إذاً يأتيك «المشروع الإسرائيلي» إلى عقر دارك وبلغة الضاد! محاولة لتفكيك فبركة إعلامية متقنة، عمل عليها خبراء أميركيين وإسرائيليين، ضمن حملة ملفّقة «تبرّئ» الشعب «الذي فُرض عليه النضال من أجل السلام»...
راجانا حمية

مشاعر متناقضة قد تنتابك، لا بل إنك قد تنسى في لحظةٍ ما ذكرى دولة اسمها فلسطين، لتحتفل بأخرى قامت على أنقاضها، كأنّ هذه الأولى لم تولد قَطّ! كلُّ ذلك عندما يصل إلى بريدك الإلكتروني رسالة ودية باسمك، تزوّدك ما «يرغب» أصحابها بتعريفك بالدولة الجديدة، ومذيّلة بعبارة «للنشر المباشر، مع تقدير دولة إسرائيل».
قبل النشر المباشر، لا بدّ لك من الاطّلاع على مضمون الرسالة، وخصوصاً أنّها ليست بياناً صحافياً. ذلك أنها تحوي ما يكفي من المعلومات لـ«الإيمان» بأنّ ثمّة دولة حقيقيّة قامت، وأنّ ثانية لم تعد موجودة، أو أنّها لم تكن أصلاً. في الجولة الأولى، يخبرك العنوان بما قد يحويه مضمون الفيديو الذي يوثّق لدولة «إسرائيل» من خلال ما يعرضه المتحدّث باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي مارك ريجيف ضمن مؤتمره الصحافي أمام عددٍ من الصحافيين العرب.
فبدلاً من أن يكون أيّار (مايو) «النكبة»، سيكون تغطية ذكرى قيام إسرائيل ذات 8 أيّار (مايو) من عام 1948. إذ يروي «حماة التوراة الجدد» في أرض الميعاد ـــــ إستناداً إلى «أوراق الحقائق» التي جمعوها ومصادر الطاقم المؤلّف من خبراء أميركيين وإسرائيليين ـــــ الحكاية المغايرة للسنوات الستّين.
تبدأ هذه الحكاية بفيديو لا يتجاوز ثلاثين دقيقة، يحرص ريجيف من خلاله على تثبيت حقائق «المشروع الإسرائيلي: الحرية والأمن والسلام»، إضافة إلى سعي الدولة المفرط في سبيل إيجاد وطنٍ قوميّ للشعب الفلسطيني من جهةٍ أخرى، في ذهن الرأي العام العربي.
في الشريط، لا مفرّ من التعاطف مع الشعب الإسرائيلي و«براءة» السلطة الساعية إلى السلام... أو هذا ما يدعونا إليه ريجيف، عندما يغرق في سلسلةٍ من التفاصيل والقصص التي تؤرّخ «أعمار شبابٍ فقدوا في ربيع العمر بسبب الحروب، وليس آخرها القتال في لبنان منذ سنتين... ودموع أمّهاتٍ بكين أولاداً قضوا في أعمالٍ إرهابيّة»... قصص تدعونا في بعض فصولها إلى تعديل وجهة النظر المأخوذة مسبقاً ودائماً عن هذا الشعب، فهو «الشعب الذي فُرض عليه النضال من أجل السلام»!
وما يزيد من ذلك الشعور أنّ «العرب ظلموا إسرائيل». وهنا، يخوض ريجيف حرباً على العواطف، في سعيه الدؤوب إلى ربط الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني في السرّاء والضرّاء، فيلجأ إلى التوازن في الحديث عن «النكبة» و«الاحتفال الوطني». مع الترجيح الدائم لكفّة إسرائيل في سعيها لاحتضان الفلسطينيين ضمن بوتقتها.
وبين «النكبة» و«الحفلة»، يواجه ريجيف مشاعر «مختلطة»: «فمن المؤسف (بحسب قوله) أنّنا نحتفل بستّين عاماً على نشوء إسرائيل، ولسنا نحتفل بمرور الستّين نفسها على استقلال فلسطين، ونعرف أنّ هناك بعض العرب تعساء ويحيون النكبة، وأنا أفهم لماذا لا يحتفلون»! فيما بقي السبب غامضاً ومردّه إلى «الحرب» التي لا نعرف من أشعلها، والتي لا يعرف ريجيف نفسه «لماذا نشبت؟».
طوال الدقائق الثلاثين، يسعى ريجيف إلى تثبيت «براءة» إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني، فهو «والشعب الإسرائيلي يعرفان أنّ الفلسطيني عانى وبكى، كما إسرائيل، بسبب الحروب». لكنّه، في الوقت نفسه، يلحّ على أنّ إسرائيل «لا تزال تكافح لإحقاق السلام مع الفلسطيني، ليجد وطناً».
ريجيف، في فيلمه، لم يكن أقلّ إيهاماً بـ«عدالة» إسرائيل من الوثائق الأخرى التي نشرها المشروع الإسرائيلي والتي توزّعت بين اثنين: أوّلها «إسرائيل في 60 ـــــ دليل مصادر الخبراء إلى الصحافيين» التي استعرض من خلالها أسماء الخبراء الذين كتبوا إسرائيل وحقائقها. أمّا الثانية، فهي «إسرائيل في ستّين ـــــ جعبة الصحافي». وقد جمعت هذه الأخيرة ما أمكنها من المعلومات التي رافقت قيام الدولة من النواحي كل، بدءاً من قيامها، والتنوّع الديني والعرقي، والأحزاب السياسية، وصورة القائدة، والانتخاب، وتاريخ مبادرات السلام بين إسرائيل والعرب، والحرية الدينية (كأن تشتري إسرائيل المصاحف التي تستخدم في المساجد)، وحقوق المرأة، وحقوق العرب التي حازت الجانب الأكبر من الاهتمام»... على أن ينطلق ناشطو المشروع في شرح كلّ منها «استناداً إلى وثيقة الاستقلال لتأكيد دوافع النيّة الحسنة للدولة الإسرائيليّة تجاه العرب».
ولأنّ العرب أكثر المستهدفين من هذا الموقع، فقد توسّع الناشطون في شرح الحقوق التي يحظاها العرب الفلسطينيون على أرض إسرائيل، إذ «مُنح الفلسطينيّون من شرقي القدس أرضاً وبطاقة هويّة خاصّة، وعُرض عليهم قبول المواطنة، لكن أغلبيّتهم رفضوا... ومع ذلك يتمتّعون بالحقوق السياسيّة والقانونيّة نفسها تماماً كالمواطنين اليهود»!
وليس هذا فقط، فنحن ربّما الذين لم يتعايشوا بعد مع اليهود. إذ تبيّن «أوراق الحقائق» أن «العرب واليهود هم مثال للتعايش السلمي، وخير دليلٍ على ذلك مخبز أبو العافية الأسطوري في يافا الذي تعود ملكيّته إلى عائلة عربيّة وأخرى يهوديّة. وهم يستعدّون الآن لبناء فندق يأملون من خلاله أن يكون رمزاً للتعاون العربي اليهودي».
لكن ما لم يسعف هذا الموقع، رغم وفرة المعلومات التي وثّقها في الحلّة الجديدة، أنّ التواريخ انحصرت فقط بمبادرات السلام بين العرب وإسرائيل التي حملت بدورها الكثير من المغالطات. وفي ما عدا ذلك، استعان ناشطو الموقع ببعض الحوادث العامّة التي يمكن أن ترد في أيّ موقعٍ آخر، من مثل المساعدات التي قامت بها في المجال الصحّي والتي لم تتعدَّ الحالة الواحدة منذ عام 2000، ومساعدة اللاجئين من دارفور التي حرصت على استعمالها ضدّ ما يعرف بـ «خطط الشرق الأوسط الإرهابيّة»... كلّ ذلك من أجل استكمال الحرب الجديدة التي يريدها رئيس الدولة شمعون بيريز لكسب قلوب وعقول العالم، ولا سيّما العربي منه!