كان تحتفي بـ«ملح هذا البحر» في ذكرى النكبةحملت المخرجة الشابة باكورتها الروائيّة إلى الكروازيت: بطلتها ثريّا المولودة في بروكلين تعود إلى أرض أجدادها المسلوبة لتحصّل بعضاً من حقوقها، وتقع في غرام شاب من مخيّم الأمعري. فيما انتظر الجمهور تحت المطر، كي يكتشف تجربة هي ــ بلا شك ــ إضافة أساسيّة إلى مسار السينما الفلسطينيّة...
كان (جنوب فرنسا) ـــ عثمان تزغارت
في كلّ مرّة يقدّم فيها «مهرجان كان السينمائي» فيلماً فلسطينياً لا بدّ من أن يشتمل البرنامج على فيلم آخر من... إسرائيل! حتّى هذا الحدّ يمكننا أن نعتبر أنّها مصادفات البرمجة. لكننا سرعان ما نغرق في لعبة المقارنات، وسيل التغطيات الإعلاميّة والمقاربات النقديّة التي تصرّ على بناء قراءات متوازية للعملين الفلسطيني والإسرائيلي، ما يطغى غالباً على أدبيّات المهرجان. هذا ما حدث مع إيليا سليمان (وضعوه عام ٢٠٠٢ في موازاة عموس غيتاي) ورشيد مشهراوي (في مواجهة آفي مغربي)... وهذه السنة تستعيد الكروازيت لعبة المرايا ذاتها لتسلّط الضوء على الصراع العربي الإسرائيلي... من جهة مخرجة فلسطينية شابة (آن ـــــ ماري جاسر) تصوّر معاناة فلسطينيي الشتات في الذكرى الستين للنكبة، ومخرج إسرائيلي (آري فولمان) يسبر أغوار الضمير المعذّب لأجيال متتالية من شبان إسرائيليين زُجّ بهم في سلسلة بلا نهاية من الحروب الظالمة التي تشنها الدولة العبرية منذ قيامها، ما جعل كثيرين يحسّون بعار الانتماء إلى دولة لم تكفّ عن العدوان على مدى أعوامها الستين (راجع المقال أسفل الصفحة).
في العرضين الرسميين للفيلم الفلسطيني «ملح هذا البحر»، لم تتسع قاعة «دبيوسيه»، ثاني أكبر قاعات قصر المهرجانات في «كان» للجمهور الغفير الذي أقبل على مشاهدة الفيلم، مدفوعاً بالفضول والتعاطف ــــــ كالعادة هنا ــــــ كلما قُدّم فيلم فسلطيني. ثم تزايد هذا الإقبال بعد العرض الأول، في ضوء الحفاوة النقدية الكبيرة التي حظي بها الشريط.
وفي العرض الاستدراكي الذي نُظّم في قاعة «الذكرى الستينية» (ستينية «كان» لا ستينية النكبة)، وقف جمع غفير من النقاد والصحافيّين في صفوف طويلة تحت المطر الغزير. وتأخر موعد العرض الذي كان مقرراً في العاشرة مساء، لأكثر من ثلث ساعة. فالتفتت آن ـــــ ماري جاسر إلى بطل فيلمها صالح بكري، وكان واقفاً خلفها في الطابور برفقة المخرج الإسرائيلي عيران كولرين (مخرج «زيارة الفرقة» أو «العرض الأخير» الذي يؤدي بكري بطولته أيضاً). علّقت ضاحكة على تأخر موعد العرض، وهو أمر يندر حدوثه في «كان»: «بدّهم الأول يحطّوا الناس شويّ في جو الـ Checkpoints»!
سيناريو «ملح هذا البحر» الذي يحمل أيضاً توقيع آن ـــــ ماري جاسر أيضاً، تتقاطع قصته مع جوانب من حياة مخرجته الشخصية. تدور الأحداث حول ثريّا الفلسطينية الأصل، المولودة في بروكلين (تمثّل دورها شاعرة أدائية فلسطينية/ أميركية هي سهير حمّاد). الشابة التي عاشت في أميركا لأبوين لاجئين من حيفا، تعود إلى فلسطين بعد اكتشافها أن مدّخرات جدها المصرفية منذ عام 1948، ما زالت موجودة في مصرف في يافا. لكنّ عقبات كثيرة تعترض وصولها إلى فلسطين التاريخية، فتستقر في رام الله حيث تكتشف أن البنك البريطاني ــــــ الفلسطيني الذي أودع جدها كل مدخراته في فرعه في يافا، فتح فرعاً جديداً في الضفة. وتنشأ قصّة حب بينها وبين شاب من مخيم الأمعري (الممثل صالح بكري). تقدّم جاسر دراما اللجوء الفلسطيني بين الداخل والخارج، وتطرح إشكالية حق العودة التي تعمل اتفاقيات «السلام» الحاليّة على تجاوزها، ما يكتسب أهميّة مضاعفة كما ذكر الزميل نجوان درويش فوق هذه الصفحة («الأخبار»، ١٢ أيار/ مايو ٢٠٠٨) ـــــ بفعل تزامن عرض الفيلم في «كان»، مع الذكرى الستين لنكبة فلسطين.
تدخل بطلة آن ـــــ ماري جاسر، في معركة قانونية شاقة لاستعادة مدخرات جدها. وحيال مماطلات البنك، تقوم برفقة شابين فلسطينيين بالسطو على البنك، حيث يستوليان بالضبط على قيمة مدخرات الجد... مضافاً إليها فوائد الستين سنة المنصرمة! ثم يتنكر الثلاثة في زيّ يهود أرثوذكس، ويتسلّلون إلى إسرائيل، لتزور ثريّا بيت جدها في يافا، وتعوم في شاطئ المدينة الذي طالما حدّثها عنه جدها ووالدها من بعده... وبعد رحلة طويلة مشوبة بالكثير من المقالب التي تعكس في قالب تراجيكوميدي معاناة فلسطينيي الـ48، تتنهي مغامرة الشباب الثلاثة بالقبض عليهم وترحيلهم.
وكالعادة لدى معظم المخرجين الذين يدخلون مجال السينما الروائية بعد سنوات من العمل التوثيقي، وُفّقت آن ـــــ ماري جاسر هنا في تقديم شريط بعيد عن الخطابية والصراخ النضالي. لقد فضّلت الإمساك بتفاصيل الأشياء لتسلّط عليها نظرة مقرّبة تبرز الظلم الإسرائيلي والمعاناة الفلسطينية من خلال مقالب كافكاوية يتقاطع فيها الواقع بالخيال. فأبطال الفيلم يتسللون إلى إسرائيل من دون ترخيص، وهو ما قام به الممثلون بشكل فعلي أثناء التصوير. إذ إنّ صالح بكري (نجل الممثل الكبير محمد بكري) تسلّل إلى رام الله بشكل غير قانوني للمشاركة في تصوير الفيلم، لكونه من فلسطينيي الـ48 الذين لا يحق لهم زيارة «أراضي السلطة» (راجع البرواز). أما الفريق التقني الفلسطيني فقد اعترضته المعضلات القانونية نفسها، بالنسبة إلى المَشاهد المصوّرة في يافا وحيفا وتل أبيب.
وإلى جانب الصنعة والحرفية المتقنة للفيلم، يتسم الخطاب الفكري لمخرجة «ملح هذا البحر»، بمزيج من الانفتاح على العصر والتصلب في آن: فهي تتبنى خطاباً أبعد ما يكون عن المحاباة والديماغوجية حيال السلطة الفلسطينية: ما هي هذه التسوية التي يريدون فرضها عليها ــــــ يقول أحد أبطال الفيلم ــــــ «بمنحنا 95 في المئة من مجموع 20 في المئة من 5 في المئة من... طيزنا!». في الوقت ذاته، ترفض المخرجة الفلسطينية الشابة أي تنازل أو تسوية مع إسرائيل، فقد اضطرت لإنتاج فيلمها بالاستعانة بإسهامات متواضعة من 20 منتجاً أوروبياً صغيراً، رافضة الحل السهل المتمثل في الحصول على دعم «صندوق السينما الإسرائيلي» الرسمي.
وتقول آن ـــــ ماري في هذا الصدد: «أردت أن أصوّر في رام الله ويافا وحيفا وتل أبيب، لكن من دون أي تصريح أو موافقة أو دعم منهم. لكي أقول لهم إنني هنا فوق أرضي، ولا أعترف بكم أصلاً... فكيف أطلب منكم أيّة مساعدة؟». وتضيف بنبرة واضحة من الفخر والاعتزاز: «أردتُ أن أحرمهم من متعة التبجّح بـ«الديموقراطية الإسرائيلية»، من خلال وضع اسم مؤسساتهم الرسمية على جينيريك فيلمي لدى عرضه هنا في كان».
ولعل هذه النبرة المتصلبة هي التي عرّضت تصوير الفيلم لكثير من المضايقات. إذ لم تتمكن المخرجة من استكمال بعض مشاهده في يافا، فصوّرتها في مرسيليا! كما أنها استعلمت ما صادفها على الأرض من مضايقات وتفتيش متكرر من الجيش الإسرائيلي. وفي مقدمها مشهد تفتيش وتعرية الممثل صالح بكري من دورية إسرائيلية، حيث يروي الممثل الفلسطيني أنها واقعة حدثت له بالفعل أثناء التصوير في تل أبيب!


صالح بكري... فرخ البط عوّامكيف ينظر محمد بكري إلى المسار الفني لابنه؟ يقول صالح: «قبل أن أتخرج من معهد التمثيل، كان والدي يشجعني دوماً وينصحني. وأعتقد أنّه الآن فخور جداً بما حققته. حين قدّمت اقتباساً فلسطينياً لمسرحية «جنون» (الفاضل جعايبي/ جليلة بكار) حضر العرض 13 مرة. وأعتقد أنه شاهد فيلم «زيارة الفرقة» مرّات عدّة أيضاً.
بوصفه ممثلاً فلسطينياً من الداخل، كيف ينظر صالح بكري إلى السينما التقدمية الإسرائيليّة التي صوّر هو ووالده تحت إدارة بعض أبرز رموزها؟ يقول: «هناك بالفعل حراك هام في السينما الإسرائيلية حالياً. لكن الصدى الذي يجده هؤلاء «السينمائيون الجدد» ما زال محدوداً جداً للأسف، وقليل التأثير في الرأي العام الإسرائيلي».


الإسرائيلي آري فولمان: «رقصة فالس»... مع حقائق التاريخولا شك في أنّ هذا الخطاب المعادي للحرب له أهميته، سواء بالنسبة إلينا كمشاهدين عرب، أو بالنسبة إلى الضمير الإسرائيلي الذي ما زال يصمّ آذانه أمام نداءات السلام. لكنْ ثمّة في فيلم «رقصة فالس مع بشير»، شيء ناقص، لكي لا نقول شيئاً مشبوهاً. لم نتردّد ـــــ فوق هذه الصفحات ـــــ عن التوقّف مليّاً عند تجارب العديد من السينمائيين الإسرائيليين المعادين للخطاب الرسمي لدولتهم، وتوجيه تحيّة لشجاعة هؤلاء ونزاهتهم... إلا أنّ هذا لا يمنعنا من توخّي الحذر، وتجنّب الانسياق وراء السذاجة الغربية في التعامل مع أي عمل يأتي من إسرائيل حاملاً نبرة مغايرة.
بعد مشاهدة فيلم يدّعي إدانة دولة إسرائيل، فإذا به يستّر على عيوبها، سارعنا إلى طلب مقابلة مع المخرج آري فولمان، لمعرفة سر الانتقائية والزئبقية التي تشوب خطابه بخصوص بشائع الجيش الإسرائيلي خلال اجتياح لبنان. صحيح أنّ الفيلم يدين الطابع المجاني والظالم والمدمر لتلك الحرب، ويبرز المعاناة والتمزق النفسي للجنود الإسرائيليين الذين جرى الزج بهم في تلك الحرب... وهذا الخطاب يخدم بلا شك معسكر السلام الإسرائيلي، لكنّ عيب الشريط الأساسي أنّه لم يتردد أحياناً في أن يلوي عنق الحقيقة تارةً، أو يتحايل ويتلاعب تارةً أخرى لتقديم أنصاف حقائق... وخصوصاً في ما يتعلق بمجزرة صبرا وشاتيلا. إذ ألقى الفيلم بمسؤوليتها كاملة على «الكتائب اللبنانية»، مغفلاً الدور الفاعل للجيش الإسرائيلي، وتورّط أرييل شارون شخصياً في التخطيط لتلك المذبحة ومساعدة بعض الميليشيات اللبنانيّة التي تدين بالولاء لإسرائيل، على تنفيذها.
وهو ما دفعنا إلى سؤال المخرج عن سرّ هذا التحايل الغريب على الحقائق، وخصوصاً أن تقريراً رسمياً للكنيست، وهو «تقرير كاهانا» الشهير، أثبت بالبرهان القاطع تورط شارون شخصياً في التخطيط لتلك المذبحة، ومشاركة الجيش الإسرائيلي بمحاصرة المخيّمين لمنع فرار المدنيين الفلسطينيين العزّل خلال المذبحة. هذا فضلا عن إنارة المنطقة ليلاً بالأضواء الكاشفة العسكرية، لتسهيل عمل إيلي حبيقة ورجاله من القوات اللبنانيّة. ولا بدّ من التذكير بأن ذاك التقرير أدى إلى إقالة شارون من منصب رئيس الأركان العسكرية.
ردّ المخرج الإسرائيلي على سؤالنا، بالقول إنّه لم يكن في إمكانه تناول جميع إشكالات تلك الحرب في فيلم واحد. وهي حجة واهية، وخصوصاً أنّ الفيلم يقدّم نفسه كعمل توثيقي، لا كفيلم روائي خيالي. الشيء الذي يفرض على مخرجه واجباً أخلاقياً في توخي الموضوعية، كما أننا لم نكن لنلقي عليه باللوم، لو أنه لم يتناول مجزرة صبرا وشاتيلا أصلاً، وركّز جهده فقط على تصوير معاناة الجنود الإسرائيليين في جحيم الحرب التي شنّتها حكومتهم على لبنان. أما أن يتناول المجزرة بشكل مجتزأ، ومخالف للحقائق التاريخية المثبتة، فهذا خطأ لا يُغتفر بالنسبة إلى مخرج يزعم أنه «سينمائي إسرائيلي تقدمي» معادٍ للسياسات العسكرية التي تنتهجها حكومات بلاده المتتالية منذ ستين سنة!