حسين بن حمزةفي مجموعته الجديدة «عزلةُ الحَمَل في برجه» (دار النهضة)، وهي العاشرة له، يقترح الشاعر العراقي شاكر لعيبي شيئاً غير دارج على قرّاء الشعر ونقّاده هذه الأيام. يتصفّح القارئ المجموعة، فلا يجد ما يسهِّل له الاستئناس والمتابعة على منوال ما. لا قصيدة قصيرة مكتوبة بضربة أسلوبية واحدة. لا نثر مفرطاً في نثريته يؤجل صنع الشعر إلى القفلة المباغتة. لا تفاصيل مهملة ولا حيثيات عابرة ولا شؤون حياة يومية ساردة في روتينها وغفليتها...
تتضمن المجموعة قصيدةً واحدة موزّعة على 68 مقطعاً أو قصيدة قصيرة. ويقوم بناؤها على حوار غير مباشر بين رجل وامرأة. سوى هذه المعلومة الشكلية والمعمارية البسيطة، لا نعثر على ما يذكّرنا بتقنيات وأساليب شائعة اعتدنا قراءتها. هذا لا يعني أن ما نقرأه فريد في بابه، بل هو، ببساطة، غير اعتيادي لفرط ما راج نوعٌ شبه موحّد من كتابة الشعر.
الرجل في قصيدة شاكر لعيبي هو مطلق رجل، وكذلك هي المرأة. لعل هذا يزيد من حيرة القارئ. إنّه حوار قرينين في لعبة الوجود. ليس المهم أين يبدأ الحوار أو أين ينتهي. الحوار نفسه لا يقوم على سؤال مقابل جواب، أو على فعل وردّ فعل، بل هو أقرب إلى المناجاة والإنشاد الذي يجعل من الرجل ذكورة مطلقة ومن المرأة أنوثة مطلقة. حيث يمثل كل طرف للآخر قريناً يحكّ به مسراته وأوجاعه، عزلته وألمه، منفاه وهشاشته. ولكن الحوار كله هو ذريعة الشعر المحمول على كل عبارة ذاهبة في الاتجاهين وعائدة منهما. إنه حوار بين مخيلات ومعاجم وبشر وحيوات وأماكن. الواقع أن عمل شاكر لعيبي يكاد يكون بحثاً شعرياً ومحاولة متواصلة للتجريب داخل نبرة قصيدته الطويلة. ثمة سعي إلى تقليب المفردات والجمل والاستعارات على ممكناتها البلاغية، كأن يقول: «إنني غيمة أُغمي عليها» أو «أنا صاغٍ وصاغرٌ»، أو حين يفلسف الفرق «بين كاف التشبيه والتشبيه نفسه». الواقع أن انشغال لعيبي بالتجريب والبحث في الشعر داخل الشعر وخارجه ليس غريباً، فقد سبق أن نشر دراسات نقدية في الشعر والفن التشكيلي والعمارة
والترجمة.
القصيدة مكتوبة بنفَس شعري متمهل. النبرة تتروّى كي ترافق هذا النَفَس. المفردات غير مسرعة إلى معانيها المعجمية المباشرة. كل هذا يسمح للقصيدة بأن تتوالد من نفسها بحرية أكبر. الطابع النشيدي والحواري يزيد من مساحة هذه الحرية المتاحة. وهذا يتيح لأشكال مختلفة من الكتابة أن تحضر في القصيدة. السرد موجود إلى جوار الكثافة. الوضوح والاسترسال يتجاوران مع الكثافة والإيجاز. القصيدة تقوم على شعرية شاملة، ولكنها، في الوقت نفسه، توفّر للقارئ صوراً شعرية صافية ومكتفية بنفسها. لنقرأ: «اصمتي مرة أخرى أمام الريح التي لم تدركي بعد / مقدار جمالها المؤقت بين خصلات شعركِ».