strong>عبد الحليم المسعوديعلى رغم عمله الطويل في المسرح، ظلّ التونسي الفاضل الجزيري (1948) يحلم بالسينما كأداة تعبيرية أكثر مرونةً وشموليةً. هذا الفنّان الذي انفصل منذ التسعينيات عن المسرح بعد حلّ فرقة «المسرح الجديد» التي أسّسها مع الفاضل الجعايبي وآخرين، قدّم العديد من العروض المهمّة في تاريخ المسرح التونسي. وها هو يدخل مغامرة الإخراج السينمائي لأوّل مرة في شريطه المنتظر «ثلاثون» الذي يُتوقّع أن يشارك في مهرجان «كان» هذا العام، علماً بأنّ الجزيري شارك في إخراج شريط «العرس» (مع الجعايبي والراحل الحبيب المسروقي) و«عرب» (مع الجعايبي).
يُعدّ «ثلاثون» الفيلم الأول في تاريخ السينما التونسية المعاصرة الذي ينكبّ على الإحاطة بمرحلة الثلاثينيات في تونس، وهي الحقبة التي شهدت ميلاد الحركة الوطنية في ظلّ الاستعمار الفرنسي. وتُعدّ من أحلك المراحل، إذ كان المجتمع التونسي ونخبته الوطنية المثقفة (بين 1924 و1934) يخوضان معركة لوضع أسس الهوية الوطنية وتحديدها والدفاع عنها من أجل الحرية والاستقلال. وهي أيضاً الفترة الحرجة التي وجدت فيها هذه النخبة نفسها أمام خياري التقليد أو الحداثة.
اختار الجزيري ثلاثاً من أبرز شخصيات تلك المرحلة، تلقت تعليمها التقليدي (جامع الزيتونة)، ثم تمردت على الواقع واحترقت بحلمها الإصلاحي المؤمن بالحرية والتحديث. هذه الشخصيات هي: محمد علي الحامي (تمثيل رامي عفانة) مؤسس أول منظمة عمّالية وطنية تدافع عن حقوق الحركة العمالية في تونس خارج وصاية المستعمر... والمصلح الاجتماعي الطاهر الحدّاد (علي الجزيري ابن المخرج) الداعي إلى تحرير المرأة عبر كتابه «امرأتنا بين الشريعة والمجتمع» (1930). وهو الذي ألّب عليه المرجعية الدينية المحافظة حتى بلغ الأمر تحريض الناس على ضربه وإهانته في الشارع... أما الشخصيّة الثالثة فهي الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي (ماهر الحفيظي) الذي كان بمثابة ضمير الحرية في وجدان الشعب التونسي الغارق في الفقر والجهل والحرمان. وهو بدوره لم ينج من التهميش والمضايقات والجحود في الأوساط الأدبية.
من خلال هذه الشخصيات، أراد الجزيري أن يكون شريطه جداريةً عن المجتمع التونسي في فترة شهدت مقاومة شديدة لدى النخب التونسية بين قوى التغيير الداعية إلى الحرية والحداثة، وقوى التقوقع والرجعية الدينية والقبول بواقع الاستعمار الأجنبي. وهذه الشخصيات الثلاث ستستدعي بدورها شخصيات أخرى بحكم إطارها التاريخي والمكاني، ومن بينها الحبيب بورقيبة (غسان الزرلي) أب الاستقلال ورئيسها الأوّل، والكاتب والصحافي علي الدعاجي (وليد ألنهدي) والشيخ جعيط والشيخ بن مراد والأمير أحمد باي والشاعر جلال الدين النقاش والرسام الروسي الاستشراقي روبتزوف ومحمد بورقيبة وغيرهم من الشخصيات السياسية والفكرية والدينية.
إلا أنّ شريط الجزيري سيركّز على الطاهر الحدّاد الذي أحدث ثورةً اجتماعية في تونس، وخصوصاً أنّ الزعيم التاريخي بورقيبة استلهم منه قوانين تونس الحديثة في مجال الأحوال الشخصيّة، ونضاله الاجتماعي في سبيل تحرير المرأة. ويرى الجزيري أن شخصيّة الحداد أقرب إليه من أيّ شخصية سياسيّة وطنية أخرى، باعتباره المثقف الإصلاحي الذي تفطّن إلى جوهر المشكلة الاجتماعية التي تخترق كامل التاريخ التونسي المعاصر. ويشير الجزيري إلى أنّ الثقافة التونسية المعاصرة تنتمي برمتها إلى هذا المدار الإصلاحي التحرري. ويشدّد على أنّ الفرد التونسي في مواجهة دائمة للخطر الأصولي في حياته اليومية، وعليه الدفاع عن هذا الإرث الإصلاحي الذي تركه الحداد، معتبراً «ثلاثون» مساهمةً فنيةً وفكرية في هذا الاتجاه.
الشريط الذي شاركت في تمويله وزارة الثقافة، هو من أضخم المشاريع السينمائية في تونس، إذ بلغت ميزانيته أكثر من 3 ملايين يورو. وصُوِّر معظم مشاهده في مبنى ضخم مهجور في الضاحية الشمالية للعاصمة، حوّله الجزيري إلى استديو أعيد فيه تصميم المشاهد الرئيسة لمدينة تونس العتيقة. وقد شارك في هذا الشريط أكثر من خمسين ممثلاً وممثلة وأكثر من 150 كومبارس.