حسين بن حمزةدأب رشيد الضعيف على أن يقول لنا شيئاً غير دارج في معظم الروايات العربية التي نقرأها. إنّه لا يريد أن تكون الكتابة مقرونة أوتوماتيكياً بجماليات الأدب. صفة «الأدب»، بالنسبة إليه، هي ما يجعل وقائع الحياة شيئاً آخر في النصوص. حتى في «الكتابات الشعرية» التي تعود إلى بداياته، كان الضعيف يميل إلى لغة واقعية وتسجيلية، تتجنب التداعي والتهويم اللغوي الذي يكون عادةً على حساب المعنى.
إنّه يدعو اللغة إلى أن تتواضع، كي تتساوى وقائع الحياة مع أسلوب نقلها إلى الرواية. اللغة الخالية من «التأدب»، الجميل والمبتذل في آن، تجعل الرواية منتمية إلى التاريخ لا إلى المطلق: هذا ما يرغب صاحب «عزيزي السيد كواباتا» أن تؤول رواياته إليه. في سعيه إلى طرد ما هو أدبي، وما هو «جميل» فيه خصوصاً. راح الضعيف يتجنب أي بلاغة أو أدبية ممكنة. كتب بنبرة غير مدّعية ولغة خفيفة، لكنها سهلة وممتنعة، داعياً القارئ إلى أن يدرك أن ممارسة التقشف البلاغي والأدبي قد تكون أصعب من الغلوّ والحشو والإطناب. يترك الضعيف لشخصياته أن تحتفظ بحضورها الواقعي والطبيعي وهي تنتقل إلى الرواية، ويركّز كلّ همّه على التخفف من المرجعيات التقليدية لبلاغة اللغة، بحيث تكون الرواية أكثر شبهاً بالحياة نفسها، فلا تتعالى لغتها وأسلوبيتها على ما يحدث للناس في أحوالهم العادية. ولهذا يبدو الضعيف «شغّيلاً» عند شخصياته أكثر من كونه مبتكراً لها. لكن هذا ليس سوى إيهام. فالكاتب، في حال كهذه، يبذل جهوداً مضنية ليوحي بأنه يروي فقط ولا يكتب. إنها معادلة في غاية الصعوبة أن يتساوى عمل الكاتب مع شغله في خدمة شخصياته.
أطلق رشيد الضعيف اسمه الحقيقي على عدد من أبطاله ليزيد حشرية القارئ، ويرفع من نسبة تصديقه لما يقرأه، ثم جعل هذا البطل راوياً ومتحدثاً بضمير المتكلم، ليوهم القارئ بفكرة أنه يقرأ سيرة ذاتية. وضع عدداً لا يستهان به من تفاصيل حياته الشخصية وآرائه في متناول القارئ، بما لهذا من جاذبية تلبي رغبة الأخير في التجسس على حياة يظن أنها حدثت فعلاً، ثم راح يلعب على هذا المنوال في عناوين رواياته أيضاً. سمّى واحدة «ليرنينغ إنغليش»، وثانية «تصطفل ميريل ستريب»، وثالثة «انسي السيارة»، ضارباً عرض الحائط بجلالة العناوين وهيبتها. فإذا كان الكاتب يسعى إلى إبطال فخامته الأدبية، فلماذا تحتفظ روايته بـ«أدبية» عنوانها؟
وفي روايته الجديدة، يواصل الضعيف لعبته المفضلة هذه، فيسميها «أوكي مع السلامة» (دار الريس)، ممرغاً الصورة المفترضة والمتجهمة للرواية، في وحل الاستعمال اللغوي اليومي، ذاهباً أكثر فأكثر نحو تقريب نصه الروائي من الواقع بمعانيه الأكثر اعتيادية وابتذالاً. يريد الضعيف من الكاتب، ومن نفسه أولاً، أن يسهم في جعل الرواية رائجةً ومفهومةً ومشوقةً، وممتعةً لشرائح مختلفة من القراء، لا للنخبة فقط. وهذا ما يدفعه إلى إدارة ظهره لمفاهيم شائعة عن «جدية» الرواية و«رسالتها» و«معناها». روايته بسيطة إلى درجة أنّها يمكن أن تحدث للقراء أنفسهم. إنها حكاية علاقة بين الراوي (وهو المؤلف نفسه) وطالبة جامعية اسمها هامة، دعته، كعضوة في لجنة طلابية، لإلقاء محاضرة عن تجربته في الكتابة. الرواية تبدأ من اللحظة التي تتصل به هامة لتبلغه بقرار إنهاء العلاقة. الرواي المصدوم يختصر المكالمة وينهيها بالقول: «أوكي مع السلامة». في تقنية أشبه بالفلاش باك، يستعيد الراوي مجريات العلاقة، ولا يعفي تفاصيلها الحميمة من الحضور. تساؤلات ووساوس يقلّبها الراوي بخفة مَن يروي الحكاية لنفسه. لعل جزءاً من طموح كتابة كهذه يكمن في توريط القارئ في حكاية ليست بعيدة عما يمكن أن يحصل له. لقد عمل رشيد الضعيف على أكثر من جبهة: أسلوبية ونصية وتقنية، كي يدفن ممارساته الأدبيّة تحت السطح السلس والرشيق للنصّ، كي يبدو مرويّاً كما حدث، لا كما كُتب.