حيفا ــ فراس خطيب«مهرجان المسرحية المحلية» الذي اختتمت دورته الثالثة في «الميدان» (حيفا)، يطرح مجموعة من الأسئلة المقلقة عن راهن فنون الفرجة في الداخل الفلسطيني، بين انحسار الرؤيا، وانفضاض الجمهور، و... رعاية المؤسسة الإسرائيليّة!
خلال السنوات الماضية، دخلت الحركة المسرحية في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، في حالة من الحيرة والضياع. وربّما عادت هذه الحالة «الرماديّة» إلى التردّد بين هويات سياسية ومناحٍ مهنية لم تحسم بعد. وأيضاً إلى هاجس الجمع بين «التجديد» والتواصل مع القديم. هكذا بقيت تجارب الداخل، بشكل عام، متقاعسة عن اللحاق بإنجازات المسرح العالمي ومكتسباته الجمالية والتقنية والفنية. وقلّة هي الأعمال التي نجحت في نقل الصراع، من وجهة نظر الفرد الفلسطيني والعربي، إلى الخشبة.
وإذا كان الواقع السياسي لأي بلد أو شعب، ينعكس بشكل أو بآخر في مرآة الثقافة (والفرجة تحديداً)، فإن معظم القائمين على المسرح الفلسطيني في الداخل، فضّلوا السير بين النقاط لإرضاء الجميع، متنازلين ـــــ من دون وعيهم ربّما ـــــ عن القيم الفنّية. في حين أنّ الإبداع يولد من رحم الجدل والنقاش لا المساومات والتنازلات... ويعاني المسرح من محاولات الاستيعاب والتدجين على اختلافها، فترى مثلاً، عرضاً لمسرحية «جدارية» (عن نص محمود درويش) يفتتح «مهرجان المسرحية المحلية» في حيفا، ليُختتم بكلمة لنائب المدير العام لوزارة الثقافة الإسرائيلية! هذه المفارقة من ضمن مفارقات أخرى، تؤكد على تلك الحقيقة المؤلمة: لقد صار المسرح معزولاً عن الناس ومعاناتهم.
سؤال ملحّ في هذه المرحلة السياسية الحرجة، لماذا يُمنح رجال المؤسسة الإسرائيلية، من باب التملق، فرصة الوقوف على المنبر (الحالة ليست في «مسرح الميدان» فقط) ليظهروا مدى «انفتاحهم»؟ فيما نعرف جيداً كيف تتعاطى المؤسسة الإسرائيلية مع الثقافة الفلسطينيّة، بدءاً بأشعار درويش التي قامت الدنيا ولم تقعد عندما اقترح إدخالها إلى المناهج الدراسيّة. هل الثقافة الفلسطينية، من الآن فصاعداً، تحت رعاية جلاديها؟... أولئك الذين عملوا دوماً على تذويب الهوية العربية لفلسطينيي الداخل، ولم يكونوا ذات يوم سنداً للحركة المسرحية هناك، بل زادوها رمادية وضبابيةً، لتبقى عالقة بين «الرعايات»، علماً بأنّ الميزانيات الممنوحة من الوزارة الإسرائيلية مخجلة. فهي لا تكفي لتحقيق عمل متواضع. وهذا يسري على جميع المسارح التي تستجدي المديرين، وتنتظر «تحويل مبلغ ما» من الوزارة.
هذه القضيّة واحدة من القضايا التي يمكن إثارتها على هامش «مهرجان المسرحية المحلية الثالث» الذي اختتم أخيراً في «مسرح الميدان» (حيفا): ملصقات وكتيّبات أنيقة، و13 عرضاً خلال تسعة أيام متتالية. المبادرة بحدّ ذاتها، شكّلت مناسبة لخلق حركة ثقافيّة هي اليوم أكثر من ضروريّة في الداخل الفلسطيني. لكنّ الشقّ الثاني من المعادلة كان مأسوياً. إذ إنّ الحضور كان شحيحاً، خلافاً لما يحاول بعضهم تصويره. وبدا جلياً، أنّ كمّ العروض الهائل نسبياً الذي اختزل نتاج الحركة المسرحية المحلية في العامين الأخيرين، لم ينقذ المهرجان من «الفقر المجازي»، بل فتح باب التساؤلات الأزلية عن المرجعيّة الفكريّة والنضج الجمالي والقدرة على الانغراس في الواقع الفلسطيني لمخاطبة ضمير المتفرجين ووعيهم.
لقد عانى المهرجان، فنّياً، من غياب المفاجآت. فالبرمجة قامت على مبدأ «رفع العتب»، وجاءت معظم الأعمال قديمة، سبق عرضها خلال الأشهر الماضية، باستثناء ثلاثة عروض لا تكفي لإعطاء المهرجان مبرر وجوده الأوّل: أي عنصر التجديد. أقل ما يمكن أن ننتظره مثلاً من «مسرح الميدان» الذي ينظّم التظاهرة، أن يفتتحها بعمل جديد من إنتاجه، بدلاً من مسرحيّة «جداريّة» التي تعرض منذ سنوات على مسارح مختلفة. بعد ذلك يشتكي أهل المسرح من انحسار الجمهور، ولا يفهمون لماذا قدمت عروض عدّة أمام قاعات شبه فارغة.
هل صحيح أن المسرح الفلسطيني بات معزولاً عن الناس؟ وهل بحثنا ما يكفي عن السبب؟ تكفي متابعة الأعمال المقدّمة، كي يدرك المرء أن المسرح الذي عاش عصراً ذهبياً قبل عقد وأكثر، مع يوسف أبو وردة ومكرم خوري وغيرهما، يشهد تراجعاً ملحوظاً في الأعوام الأخيرة، على مختلف المستويات الدراميّة والجماليّة والفكريّة، ما انعكس على العلاقة مع الجمهور بطبيعة الحال. أما الأعمال التي تميّزت بالاتقان والنضج، فجاءت عراقيل إداريّة شتّى لتحول دون وصولها إلى دائرة واسعة من المشاهدين.
وأزمة المسرح الفلسطيني في مناطق الـ48، ليست وليدة المهرجان طبعاً، لكنه يأتي ليكرّسها ويسلّط عليها الضوء... يعاني «مسرح الميدان» من أزمات مادية، وصراعات مختلفة، على خلفيّة تحديد المدير المقبل. وصارت الأخبار عن إدارته وصراعاته أكثر من تلك التي عن أعماله. ببساطة، صار المسرح في كواليس، لا في الصالات... وكل ذلك أثّر على الزخم الإبداعي بشكل عام، علماً بأن «الميدان» هو «المسرح العربي» الأكبر في «البلاد»، باعتباره صاحب الموازنة الأكبر. كان دائماً في صلب الحركة المسرحيّة. ومثّل نهضة (نسبية) بعد ركود الحركة المسرحية في الداخل أثناء الصراعات السياسية بين «يوم الأرض» والانتفاضة الأولى. لقد جاء منتصف التسعينيات ليكون بديلاً، أكثر مهنية، عن مسرح «الناهض» (لم يعد له ذكر)، وعن «الكرمة» (القائم حتى اليوم). وكان ثمرة لجهود بعض الفنانين الذين ملّوا العمل في المسارح العبرية (المزدهرة في حينه). وأنتج «المسرح العربي في إسرائيل»، كما عرف في البداية، أعمالاً راقية، لا تزال حيّة في ذاكرة الجمهور. نذكر بينها مسرحية «موت فوضوي بالمصادفة» (عن الإيطالي داريو فو) تمثيل: مكرم خوري ويوسف أبو وردة ونورمان عيسى وسلوى نقارة. تزامن عرض المسرحيّة في الناصرة يومها مع قضية تعذيب السجناء الفلسطينيين، بعد أن منحت «لجنة لانداو» المخابرات الإسرائيلية حق اللجوء إلى «العنف المتّزن» ضد السجناء، في ظل صمت القضاء. ولم تلغ المحكمة الإسرائيلية توصيات لاندو إلا عام 1999، علماً بأن هناك تقارير جديدة تشير إلى أن التعذيب مستمر حتى اليوم.
إن مسرحيات تلك المرحلة الذهبيّة تناولت الواقع الفلسطيني، ونجحت في التعبير عن معاناة الناس، انطلاقاً من نصوص عالميّة لم تكتب في الأساس لهذا الواقع ولهؤلاء الناس. وهذا هو سحر المسرح الذي استقطب آنذاك جمهوراً واسعاً ما زال يستعيد الأعمال القديمة إلى اليوم... إلى حد المطالبة بإعادة عرضها! ما الذي تغيّر من ذلك الوقت؟ ولماذا انفضّ الجمهور عن «المسرحيات» و«المهرجانات المحلية» التي «ترعاها» المؤسسة الإسرائيلية؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يبدأ منه مشروع إحياء المسرح الفلسطيني في الداخل.


مسرح يبحث عن نقّاد

أزمة المسرح في الداخل لها وجه آخر: غياب النقد! ذلك أن انحسار الإبداع، يواكبه تقاعس الإعلام العربي المحلي عن التعامل الديناميكي مع المسرح. فما يجري اليوم هو «استباحة» للمسرح والقائمين عليه. «صحافيون» من مراسلي المواقع الإلكترونية المتكاثرة في الداخل، يدخلون بكاميرات ديجيتال صغيرة إلى قاعة العرض. يلتقطون الصورة تلو الأخرى، ومقطع فيديو عشوائياً من قلب المسرحية، ثم يعرضون الغلّة على المواقع الإلكترونية. أما الخبر فيكون سطرين أو ثلاثة مع عشرين صورة ومقطع فيديو بجودة متدنية، والصور أيضاً. لا أحد يستطيع أن يوقف هذه الظاهرة. المقالات النقدية؟ لم يعد أحد يكتب نقداً!
قبل عامين، تعرّض أحد الكتّاب إلى هجوم شرس: «كبف تكتب عن هذه المسرحية؟ أنتَ لست ناقداً مسرحياً!». كانت الإجابة واضحة: الحركة النقدية تتطور مع المسرح، وتنحط أيضاً مع المسرح. الجميع الآن صامتون، ولم يبقَ سوى تلك «التغطية الإعلامية». لماذا لم تعد الحركة المسرحيّة قادرة على فرز نقادها ومنظّريها؟ هل على أهل المسرح أن يساهموا في «خلق» نقاد مسرحيين؟ هل يأتي الناقد على الطلب؟ من أين نأتي به إذاً؟