«بعد سنوات من الدراسة أمضيتها في باريس في الستينيات، عُدت إلى قريتي حاملاً شهادة في العزف على آلة الترومبيت. كعادة القرويين، استقبلني أهل ضيعتي وطلبوا مني أن أعزف لهم شيئاً، مقترحين بطبيعة الحال ألحاناً من الفولكلور اللبناني المشرقي (ميجانا، دلعونا، عتابا، أبو الزلف...). وقفت أمامهم عاجزاً عن تلبية رغباتهم، وأحسست بالخجل: تغربت خمس سنوات ودرست في أهم المعاهد الموسيقية في فرنسا، ومع أهم الأساتذة (موريس أندريه، أشهر عازف ترومبيت في عالم الموسيقى الكلاسيكية الغربية)، فكيف أشرح لهم عدم قدرة آلتي الغربية على إصدار ربع الصوت، محور الموسيقى الشرقية والفولكلور اللبناني!». بهذه الكلمات يروي نسيم معلوف في الشريط الوثائقي «بلوز الشرق» (للمخرجة الفرنسية فلورانس شتراوس) الحادثة التي دفعته إلى ابتكار «الترومبيت العربية أو الشرقية» في أواخر ستينيات القرن الماضي، بإضافة مفتاح رابع إلى آلته ليتمكن من استصدار أرباع الأصوات منها. في عام 1994، أصدر معلوف أسطوانته الوحيدة «ارتجالات شرقية» التي حوَت تقاسيم على الترومبيت في عزف منفرد. واليوم، يكمل إبراهيم معلوف، نجل نسيم، المشوار مع الترومبيت الشرقية، ويصدر باكورته بعنوان «دياسبورا» (إي. أم. آي. ـ 2008). تحتوي أسطوانة معلوف تسع مقطوعات موسيقية من تأليفه (باستثناء التقاسيم المستقلة ومقطوعة لموسيقي الجاز الشهير، عازف الترومبيت ديزي غيلسْبي).
ولد إبراهيم معلوف عام 1980 في لبنان، وانتقل إلى فرنسا هرباً من الحرب، حيث اختار أن يتخصص بالموسيقى والعزف على الترومبيت، متخذاً توظيف هذه الآلة في الموسيقى الشرقية محوراً لنشاطه. درس إبراهيم في المعهد العالي للموسيقى في باريس، وحاز خلال الدراسة وبعدها جوائز عالمية. لكنّه لم يهمش في رحلة التعرف إلى عالم الموسيقى أياً كانت أنماطها، وطرق جميع أبوابها، العريقة منها (موسيقى كلاسيكية، جاز، الموسيقى التراثية العالمية ومن بينها الشرقية) والمعاصرة والحديثة (الموسيقى الإلكترونية). من هنا لا يمكن تصنيف الموسيقى التي يؤلف تحت خانة واضحة ومحدّدة بتسمية صائبة مئة في المئة، إذ ينطلق من ثقافته الموسيقية الواسعة ليخرج بخلاصة تستقي من كل مصدر ما هي بحاجة إليه، فتفلت من قيود النمطية ولو أنها تترك قنوات اتصال في كل الاتجاهات. بعض من «الموزيك كونكريت» (موسيقى الصوت الواقي) هنا، وأنسجة إلكترونية هناك، وتقاسيم شرقية في عزف منفرد لبعض الموسيقيين المشاركين في الألبوم (قانون: إيلي أشقر، عود: كامل لبّاسي). ارتجالات شرقية على الترومبيت على خلفية وتريات منخفضة، وهي محطة إبراهيم الأقرب إلى نمط والده نسيم (لأن الوتريات تتدخل في مسار الارتجالات).
لأسطوانة «دياسبورا» وظيفة مهمة: قد لا تستطيع أن تلفت أنظار المستمع المتجذّر في الموسيقى الشرقية الأصيلة... لكنّها حتماً من أجدى الوسائل لتلقين الأذن الغربية ــــ في العالم الغربي، كما في أوساط الشباب العربي الذي ينفر من «الشرقي» ــــ ربع الصوت في الموسيقى. أي الإحساس الشرقي الخالص الذي لا يمكن استشعاره والتفاعل معه بسهولة، وذلك عبر تغليفه وتطعيمه بنكهات من الثقافة الموسيقية الغربية.