strong>«سلطة بلدي»: زيارة السيّدة العجوز (إلى إسرائيل)
«سلطة بلدي» عنوان شريط اشكالي أثار نقاشات كثيرة، في مصر وخارجها، وخضع لمحاكمات متسرّعة، على خلفيّة الراهن السياسي المتوتّر... فيما دافع آخرون عن تجربة نادية كامل التي تجرأت على المحظور، وواجهت تحديات كثيرة لانجاز هذا الفيلم

بيار أبي صعب
ليس أمام مُشاهد «سلطة بلدي» سوى خيار واحد: أن يضع نفسه في المأزق الذي أرادته له نادية كامل... بل قل المأزق الذي زجّت المخرجة بنفسها فيه، وزجّت بالعائلة والرفاق ودائرة الأصدقاء، بمواطنيها ومعاصريها، كي تحقق فيلمها الإشكالي والمثير للإعجاب والاهتمام على أكثر من صعيد: فنّياً وأخلاقيّاً، سياسيّاً وإنسانيّاً... شيء ما يقول لنا، على امتداد الشريط، إن ناديا هي التي أرادت كلّ شيء، وافتعلت كلّ شيء. إنّها استدرجت حفيد العائلة إلى دائرة الأسئلة المقلقة، وأقنعت أمّها بضرورة المجاهرة بهويّتها الأولى، وورطت الأب والجميع في هذه الحكاية. أرادت نادية كامل أن تصنع فيلماً من أجل نبيل الصغير، فكان «سلطة بلدي»، كما تشرح لنا بصوتها في البداية. فهي لا تريد لابن اختها أن ينجرف في تيار النظرة الأحاديّة، الاختزاليّة، الإقصائيّة، المتعصّبة التي هي وليدة خطاب مقهور... ولا تريد له أن يصدّق تلك العظة التي نسمعها مطلع الشريط، و«تختزل العالم إلى المسلمين وأعداء المسلمين».
الطفل نبيل الفلسطيني الذي لا يكاد يملك جوازاً جديراً بهذا الاسم، أو جنسيّة محددة، هو حلقة الوصل بين فقرات الفيلم، فيما «البطولة» المطلقة لجدّته كما سنرى. إنه ابن أخت المخرجة التي تستعمل ضمير المتكلّم، وتفتح أرشيف العائلة وألبوماتها. نراه يصلّي العيد لأوّل مرّة (ما الذي أخذه إلى هناك؟)، ويكبر في عالم مأزوم، مكتشفاً أن هويته قائمة على مجموعة من الروافد المتنوّعة والمفارقات الخصبة التي تحيل إلى كتيّب شهير لأمين معلوف، بعنوان «الهويّات القاتلة»: علي والده الفلسطيني، مصريّ الأم، ولبناني الجدّة لجهة أبيه الوزير الفلسطيني السابق نبيل شعث. عمّته التي تظهر في الفيلم لتحكي عبثية الهويّة الفلسطيني، هي الفنانة والزميلة رندا شعث التي تحمل جوازاً أميركياً لا ينفع لدخول الأراضي المحتلة. ووالدته دنيا (أخت المخرجة) مصريّة، لكننا سنكتشف في الفيلم أن جذور أمّها موزّعة بين إيطاليا و... إسرائيل.
إسرائيل؟ نعم. المثقفة والمناضلة نائلة كامل، زوجة سعد كامل، هي في الحقيقة ماري. حسناً هناك جزء معلن من الهويّة «السابقة». فالرواية الرسميّة المتداولة في العائلة والمجتمع، هي أنّها إيطاليّة مسيحيّة، أشهرت إسلامها وتمصرنت. لكن لا، حين تفتح لنا نادية علبة باندورا، ستخرج منها أسرار مدفونة بعناية منذ أكثر من نصف قرن. نائلة هذه المرأة الآسرة، صاحبة الشخصيّة المدهشة والجذابة، والمنطق الجدلي الهادئ، هي ماري، ابنة إيلي روزنتال التي تتوقف الكاميرا عند وثيقة طلب «تصحيح» اسمها وديانتها في الأربعينيات. إنها يهوديّة. هذا ما سنكتشفه مع نبيل الصغير الذي يضيع قليلاً في «حكاية إسرائيليّة دي» (وكانت التسمية تستعمل في سجلات القيد للإحالة إلى الديانة اليهوديّة، قبل النكبة بزمن). فيما تصدم ابنة عم ناديا المحجّبة، حين تعرف أنّ نائلة التي ربّتها هي يهوديّة الأصل، ولها أقارب في إسرائيل!
وتقرر الجدّة (في الحقيقة ناديا هي التي تقرر عن الجميع) أن تأخذ حفيدها في جولات «تربويّة» كي يرى ويفهم. زيارة إيطاليا سهلة، حيث التجأ أخوها... لكن جزءاً من العائلة ركب القطار من القاهرة إلى فلسطين التي ما لبثت عصابات الهاغانا أن حوّلتها إلى إسرائيل. فكيف نلتحق بأولئك الذي قادتهم إلى هناك أخطاء القيادة العربية التي لا تغتفر، وسرطان الأوهام الصهيونيّة التي لعبت على التهويل والخوف؟ نائلة/ ماري تريد أن تجاهر بسرّها، أن تذهب للقاء هذا الجزء منها الذي تسرّب إلى أرض الأعداء. هذا القرار الصعب، في ضوء الراهن السياسي المصري، وكل ما يختزنه، هو محرّك الفيلم. الأب سعد، أبو نادية المخرجة، رفيق عمر نائلة ورفيق نضالها، هو الصامت الأكبر. يعيش ضغطاً فظيعاً، تردداً هاملتياً (نسبة إلى البطل الشكسبيري الشهير)، عنفاً داخلياً يضعه في مواجهة مع تاريخه، قبل أن يحسم أمره ويسافر (على مضض).
نبيل لن يكون في عداد الموكب، لأن أوراقه لا تسمح بذلك. لكنّ نائلة صارت في عمر لا يترك لها الوقت. تريد أن ترى، ولو مرّة، أهلها هناك، على الضفّة الأخرى. ستذهب برفقة زوجها وابنتها وصديقة فلسطينيّة. في ديكور متواضع ستلتقي ابنة عمّها سارينا روزنتال (توفيت في عام ٢٠٠٧) وبعض الأقارب. نشعر بالمسافة، والغربة، وشيء من البرود. يتنقل المتحاورون بين الفرنسيّة والإنكليزيّة والعاميّة المصريّة. سيجري حديث عابر عن ذكريات طفولة بعيدة، وحنين إلى أم كلثوم ومصر الكوسموبوليتيّة. سعد صامت. نائلة منفعلة، لكنّها غريبة هنا حقّاً... تحاول أن تدير دفّة الحديث، وتأخذ محاوريها في اتجاه ما تحتاج إليه الكاميرا. الكاميرا عفويّة، تكاد تختفي بين الناس. الأسئلة مباشرة، واللقطات بعيدة عن أي فذلكة أو ادعاء. والمونتاج بسيط وديناميكي، يستند الى تعليقات نادية كامل، مداخلات الأم، وصوت كاميليا جبران وموسيقاها.
هذا كل شيء عن «الزيارة»... زيارة السيّدة العجوز. بعدها، كان لا بدّ طبعاً من أن يعرّج الموكب على ما تبقّى من فلسطين. الذهاب إلى دار نبيل شعث في غزّة (قبل أن تقضي عليه «حماس») بدا مستحيلاً بسبب الحصار الإسرائيلي. تبقى رام الله، نوعاً من التأكيد على الموقف السياسي واستعادة الصلة بالقضيّة... والتوصل إلى أن «الواقع ما لوش حلّ سريع». ونعود إلى القاهرة.
فيلم نادية كامل لا يمكن أن يتركك محايداً... يضعك أمام أسئلة جوهريّة، ومشاعر متناقضة. وهنا تكمن «فنيّته» وضرورته، و... بعده الإشكالي. إنّها تجربة لم تحسم بعد، تجربة «سلطة بلدي»، والذي يقول العكس، يكون قد حرم الشريط ديناميّته الأساسيّة، وتغافل عن جزئه غير المنظور. ماذا يكمن خلف الحياة الحميمة التي يكشفها؟ أيّة علاقة سجاليّة ممكنة، بين شريط فردي وحميم في ظاهره، والمرحلة السياسيّة الصعبة التي لا تترك لصاحبته، وقد «تجرّأت على المحظور» (في نظر الجماعة)، أسباباً تخفيفيّة من نوع الصدق، والذاتيّة، والوعي النقدي، و«الوطنيّة»؟
يترك الفيلم مذاقاً غريباً، إحساساً بلقاء لم يكتمل، شعوراً مركّباً هو مزيج من الإعجاب والتعاطف والحزن والمرارة والحيرة... ومن البلادة الفكريّة بمكان، أن يحكم المرء على العمل بالإعدام بتهمة «الخيانة»، هو الذي لم يفقد لحظة مَلكة التمييز بين القامع والمقموع (حتّى المبالغة)... لكن، لعلّه من التسرّع أيضاً، والتعميم الذي لا يخدم التجربة، تقديم الفيلم بصفته النموذج الصارخ لما ينبغي أن يكون عنوان المرحلة فكرياً وسياسيّاً، بحجّة أنّه تخلّص من الديماغوجيّة والشعارات الجوفاء، لمصلحة الانفتاح والجرأة على تجاوز الخطوط الحمر، وإعادة الاعتبار إلى الذات المكبوتة والمقموعة، والإصغاء إلى أسرارها الدفينة...


strong>نقاش «التطبيع» في غيـــر مكانه!
أثير نقاش خاطئ حول «وطنيّة» نادية كامل، واتّهم فيلمها زوراً وبهتاناً بـ«التطبيع». واستحوذت على اهتمام بعض المثقفين والإعلاميين أسئلة هامشيّة من نوع: هل يحق لمناضلَين تقدميَّين جاهدا في مصر طوال حياتهما من أجل القضايا الاجتماعيّة والقوميّة، أن يذهبا فجأة إلى إسرائيل في مهمّة ذاتيّة، هي المجاهرة بهويّة مطموسة، والتصالح مع ماضٍ بعيد تراكمت فوقه أهوال التاريخ الدامي في هذه المنطقة من العالم؟ علماً بأن المهمّة الذاتيّة متلازمة مع هاجس سياسي طبعاً، هو تسليط نظرة أكثر تعقيداً إلى تركيبة مجتمعاتنا، وإلى خلفيّات الصراع وتشنّجاته في مصر والعالم العربي. في حين أن السؤال ببساطة هو، كيف صوّرت ناديا كامل فيلمها؟ ولماذا حققت الفيلم، الآن وهنا؟ والإجابة عنه ليست من السهولة في شيء. هذا هو المأزق الذي يحاصر المتفرّج، ويضعه أمام أحاسيس وأفكار ومواقف متضاربة طوال الوقت. وهو بهذا المعنى يعيش، من موقعه، مصاعب موازية لتلك التي عانتها المخرجة، على امتداد سنوات، لتحقيق الفيلم: من تقنية وماديّة ونفسيّة وسياسيّة وبيروقراطيّة. إضافة إلى التحدي الشخصي على الأرجح، إذ مارست على نفسها نوعاً من العنف، لتجاوز المسلّمات التي تربّى عليها جيلها، ومواجهة أهلها ورفاقها ومجتمعها، والإبحار عكس تيار الإجماع، وتعرية الذات عبر كشف أسرار العائلة وأوراقها الحميمة...