ماركس وبن لادن يلتقيان الليلة عند مستديرة الطيّونةبيار أبي صعب

الفاضل الجعايبي في بيروت أخيراً. كنا قد فقدنا الأمل. دارت مسرحيّته الأخيرة «خمسون» (نص جليلة بكّار) على مدن العالم، من باريس حيث انطلقت قبل ٣ سنوات، إلى طوكيو. حوصرت رسميّاً في بلدها تونس أشهراً طويلة، لأنّها تضع الإصبع على جرحنا العربيّ المفتوح. أثارت سجالاً حقيقياً حيثما عرضت، وعدّها النقّاد وأهل الخشبة بشكل عام من أنضج أعمال الجعايبي/ بكّار فنيّاً وسياسيّاً... وكادت تنتهي عروض «خمسون»، فينفرط عقد الممثلين، وينتقل العمل إلى مخازن الأكسسوار وأرشيف الذاكرة، من دون أن يلتقي جمهوره اللبناني الذي يقيم علاقة خاصة مع الجعايبي، منذ «فاميليا» (1993) و«عشاق المقهى المهجور»
(1995)...
ولولا برمجة «خمسون» في دمشق («عاصمة الثقافة العربيّة ــــ ٢٠٠٨»)، واستماتة مسرح «دوّار الشمس» (حنان الحاج علي وروجيه عسّاف) من أجل تقديمها في لبنان، وإصرار الفرقة التونسيّة («فاميليا للإنتاج») على المجيء إلينا مهما كانت التضحيات المادية... لما حدثت الأعجوبة، الليلة وغداً السبت، على خشبة «دوّار الشمس» في الطيّونة.
من دمشق إذاً، تأتينا هذه المسرحيّة الإشكاليّة، وقد سبقتها أصداء الجدل المحتدم في فلسطين بشأن ما إذا كان «الرقص» حراماً و«خيانة قوميّة» حقّاً! بعد الحملة التي شنّها وكيل وزارة الأوقاف في حكومة «حماس»، ورئيس «رابطة علماء فلسطين» في غزّة، ضدّ «مهرجان رام الله للرقص المعاصر» (راجع المقالة أدناه)، ها نحن دفعة واحدة في قلب مسرحيّة الجعايبي: قوى التشنّج والظلام الطالعة من قهرنا وهزائمنا وتنازلاتنا، تطرح الأسئلة بطريقة مقلوبة. بين الفساد المتخاذل والأصوليّة العمياء، ينسحق المجتمع المدني، وتواصل القضيّة انهيارها، وتنحسر الثقافة التي تختضن ملامح مجتمع آخر.
هذا الصراع هو نواة العمل الذي يقدّمه لنا الجعايبي وبكّار، مع نوال اسكندراني (كوريغرافيا) والحبيب بالهادي (إنتاج)، ومجموعة من أبرز ممثلي المسرح التونسي (جليلة بكّار، فاطمة بن سعيدان، معز المرابط، لبنى مليكة، جمال مداني، بسمة العشي، وفاء الطبوبي، دنيا الدغماني، رياض الحمدي، خالد بوزيد، حسن العكريمي). من خلال المواجهة التي نجدها في مختلف أعماله، بين جيلين ومرحلتين من تاريخ تونس الحديث، يتفحّص الجعايبي المجتمع المحاصر بين مطرقة السلطة المستبدّة المتواطئة على شعبها، وسندان التطرّف الذي ليس في النهاية إلا تعبيراً عن قهر الجماعة العميق، وفشل مشاريع التنمية والتحديث.
الحبكة بسيطة. تشرين الثاني/ نوفمبر 2005، تونس تستضيف قمة مجتمع المعلومات، والعالم كلّه يتشدّق بحداثة البلد وانفتاحه. في هذا الظرف تفجّر أستاذة محجبة نفسها في ساحة مدرسة، فتهزّ بفعلتها هذه طمأنينة الوطن المستكين، وتشوّش تلك الصورة المنمّقة لبلد الاستقرار والازدهار الاقتصادي وجنّة الانفتاح والسياحة! تباشر الشرطة تحقيقاتها ــــ «الراقية» طبعاً! ـــــ مع صديقات الانتحاريّة اللواتي عدن بشكل أو بآخر إلى الدين، فتحكم الخناق على أمل وحنان باسم قانون «دعم المجهود الدولي لمكافحة الارهاب». أمل (لبنى مليكة) التي ستدور حولها الأحداث، منشغلة بالتصوّف... ابنة مناضلين شيوعيين من جيل الاستقلال، تركت تونس ماركسيّة وعلمانيّة، بعد أن اضطهدت فيها بسبب نشاطها السياسي على أثر انتفاضة الأقصى، ثم عادت إليها محجّبة، وقد أحبّت في باريس طبيباً فرنسياً انتقل من التروتسكيّة إلى التيار الإسلامي السلفي.
كالعادة يغوص صاحب «جنون» (2001) في جراح الجماعة، يواجه مجتمعاً مأزوماً راح أهله يستسلمون لإغراءات الخطاب الإسلاموي. تبدو الخيارات العنيفة الوسيلة الوحيدة المتبقّية لمواجهة كل هذا الظلم: ظلم الداخل والأنظمة المستبدّة الفاسدة التي لا تمثّل شعوبها، وظلم الخارج في زمن الاستعمار الجديد: «العراق، فلسطين، أفغانستان»... كلمات طوطميّة تردّدها الشخصيات المأزومة الباحثة عن خلاص في الإسلام السياسي، لمواجهة مختلف أشكال اليأس والقمع والفساد، والإحباطات الفرديّة والجماعيّة.
لكنّ قوّة المسرحيّة تبدأ حيث ينتهي النصّ، في لعبة الأسلبة والعنف، في الطقوس والمناخات التي يخلقها الإخراج، وفي الأداء التمثيلي. «خمسون» مسرحيّة ممثلين بامتياز: أجساد مشدودة الأوتار والأعصاب تتحرّك دائماً بين توتّر وبطء صوفي تأملي، في كوريغرافيا متماسكة، متواصلة من أول العرض إلى آخر لحظة فيه. أجساد تلتقي وتفترق، في الفضاء العاري... هذا «الحيّز الفارغ» العزيز على بيتر بروك. والجعايبي في سيطرته القصوى على أدواته لا يقلّ أهميّة، اليوم، عن كبار المسرح المعاصر.
الرؤية المشهديّة مبنية على شكل مواجهة: من جهة أمل ومنطقها وجماعتها... ومن الأخرى والداها: يوسف الشيوعي الذي عرف التعذيب في سجون بورقيبة حيث قبع ١٢ سنة (معزّ مرابط، لافت)، صمت نهائياً وراح يتعذّب حتّى الموت، منذ علم أن ابنته لبست الخمار. وأمها مريم (جليلة بكّار، مضيئة)، البطلة الإيجابيّة بامتياز. وحدها في مواجهة كل أشكال الأصوليّة: زوجها الذي يرفض أن تفكّر ابنتهما بشكل «مختلف»، المجموعة المتطرّفة التي تهدد المجتمع بأخطر أشكال الردّة... وبين الاثنين الجهاز القمعي الذي بنت عليه السلطة جبروتها: من ضابط الشرطة الشاب والطموح (معز المرابط، ينضح بالطاقة) إلى الجلاد القديم الذي تولى تعذيب والدها ثم زوجها، وقد بات سكيراً وهامشيّاً (جمال مداني يلعب دوراً مركباً)، وتبدو مريم مشدودة إليه بطريقة ملتبسة.
تسلّط المسرحيّة الضوء على عنف الشرطة واستهزائها بأبسط حقوق الإنسان، دفاعاً عن المنطق العلماني! وهنا تكمن شجاعة «خمسون»: في موقفها من السلطة، المسؤولة الأساسيّة عن تفشّي تلك الظواهر السرطانيّة التي تشبه الانتحار الجماعي. فيما نجد أن معظم الأعمال التي تناولت الإسلاميين، صوّرتهم بأشكال اختزاليّة أو كاريكاتوريّة جائرة، يحاول الجعايبي أن يفهم ويناقش. تقتفي بطلته مريم أثر ابنتها، برفقة صديقتها المحاميّة (فاطمة بن سعيدان مدهشة كالعادة!). تريد أن تفهم ماذا حلّ بتلك الشابة. هناك مجاهرة بالخلاف مع التيار الإسلامي، وفي الوقت نفسه احترام حقيقي له، ورغبة في مساجلته من موقع الند للندّ، عبر استقاء الحجج من المرجع نفسه، من القرآن الكريم، والتراث العربي والشعر الصوفي. فالإسلام دين غنيّ، متعدد الأبعاد والقراءات، ولا يحق لأحد فيه أن يدّعي احتكار الحقيقة. وفي المقابل، فإن نظاماً سياسياً فاسداً وقمعيّاً، لا يمكنه إلا إذكاء التطرّف.
ويأتي المعادل البصري ليعطي العمل قوّته ونضجه. الخشبة المتقشّفة التي تدور فوقها أحداث مسرحيّة «خمسون»، تذكّر بمسرح الـNô الياباني. شبه مربّع فارغ، تؤثثه الحركة، وتخلق الإضاءة أبعاده السينوغرافيّة (قيس رستم). مسرح الجعايبي يتجلّى في أنضج لحظاته على تلك الحلبة. كل أشكال العنف الداخلي والخارجي تعبّر عن نفسها هنا. وتأتي مساهمة نوال اسكندراني في اختراع الحركة، وإعطاء الكلمة للجسد في مواجهة النصّ (المقدّس)، لتجعلها شريكة حقيقية في «تأليف» العرض. «كلا جسد المرأة ليس بعورة»، كان يردد يوسف الشيوعي لابنته في مراهقتها. ونوال تذهب في الاتجاه نفسه: تعمل على كسر المحظور، على ترك هذا الجسد ــ جسد الشابات «الأصوليّات» تحديداً ــ يفلت من عقاله، كي يعبّر عن نفسه ويعيش ويجاهر بحريّته ويعلن تمرّده...
الجسد آخر القلاع العربيّة في مواجهة الخطاب الأصولي؟ السؤال في مكانه، وفضيحة الأمس في «مهرجان رام الله للرقص المعاصر» ماثلة في الأذهان. هذا هو المسرح، أحد مداميك تونس الحديثة، كما يفهمه الفاضل الجعايبي: فضاءً مدنياً للتفاعل والحوار في شؤون الحاضرة، مختبراً للديموقراطيّة والسلم الأهلي والتنوير.

«خمسون» 8:30 مساء اليوم وغداً الجمعة والسبت ـــ مسرح «دوّار الشمس» (الطيونة) ـ 01،381290


الأم جليلة... الأم تونس
بيار...في الحقيقة، مشاركتها في التأليف تعود إلى ما قبل ذلك بكثير. مسرح الجعايبي قائم على التمارين والارتجال، حيث لكلّ ممثل أن يكون شريكاً في التجربة، ومؤلّفاً لشخصيّته. ومن حركة الذهاب والإياب بين قاعات التمارين (التي تستغرق أشهراً مضنية) والسكريبت، يولد العرض. لذلك تجد بصمات جليلة بكّار على كل شخصياتها. فيها الكثير من بطلة مونودراما «البحث عن عايدة». منذ مسرحيّة «عرب» الأسطوريّة (الجعايبي/ الجزيري)، نعرفها مسكونة بالجرح الفلسطيني. فيها الكثير من شخصيّة الأم التي تؤديها في «عشاق المقهى المهجور». إنّها وريثة الزمن البورقيبي التي تذكّر ابنتها بأن عقلها وجسدها ملكها وحدها.
الأم جليلة ــــ كما نقول «الأم كوراج» عن بطلة بريخت الشهيرة ــــ حاملة لواء القضايا والمواجهات الصعبة. تريد مقارعة الإسلاميين، في مناخ من الحريّة والعقلانيّة والحوار والمحاججة... وتتضامن معهم حين يعلنون إضراباً عن الطعام في تونس. لا تمييز في معركة الحرية، بين خصم وحليف. لقد تركت بصماتها على بطلتها مريم في «خمسون».. تلك المرأة العلمانيّة العصريّة التي دخل أبوها السجن في سنوات الاستقلال الأولى، لأنه من أنصار بن يوسف المعارض لبورقيبة... ودخل زوجها السجن لأنّه شيوعي أيّام النضالات الاجتماعيّة في السبعينيات... وتدخل ابنتها السجن الآن متهمة بأنّها «إسلاميّة». هذه المرأة تختصر وحدها تاريخ تونس المعاصر. هذه المرأة هي تونس!