وائل عبد الفتاحنزار قباني علامة تجارية. دليل المراهقين إلى حفلات الفوران العاطفي. الغرام الصاخب وطقوس الندب السياسي. واللقاء الأوّل مع المحرمات. لا يمكن اختصاره بأنّه «شاعر ما يطلبه المستمعون». نزار يعرف مستمعيه ويلاعبهم، يقودهم إلى خيمته ليسمعهم المدهش والصادم والمستفز لأول طبقة من الحواس. يقف عند هذه الدرجة حتى لا يفقد أوسع جمهور ممكن، جمهوره يصطف في خانة الأعداء قبل أن يصبح من المريدين. عدوته الأولى هي السلطة (السياسية والاجتماعية). نزار منافسها في اصطياد الجماهير. نزار ليس شاعراً بالمعنى الحديث، إنّه شاعر قبيلة، بالضبط هو شاعر القبيلة الحديثة حيث تختفي القبيلة القديمة تحت قشرة رقيقة من المدينة الحديثة. نزار هو مغني القبيلة، لكنه يرتدي ملابس عصرية خفيفة، وبدلاً من احتفال القبيلة، يصعد الشاعر على أكتاف التظاهرة.
نزار أعلن أكثر من مرة عن سعادته بأنّه محرض. في أواخر قصائده، قاد طقساً شعرياً يلبي غريزة مازوشية في تعذيب الذات تفاقمت منذ حزيران 1967 حين بدأت فكرة لطم الخدود، وحفلات البكاء والنواح والشتيمة. فعل جسدي وذهني يتوقف عند حدود لوم الذات، الجمهور يستمتع، والشاعر ينتشي. وقتها تداولت شريحة من المثقفين المجروحين قصائد نزار من «هوامش على دفتر النكسة» كالحبوب السرية.
شاعر موهوب وسليل عائلة خارجة عن تقاليد الفن وذوقه، طبقة وسطى دمشقية، نجومها هم المتمردون على القشور المحافظة، متمردون يصنعون طبقة جديدة، تبدو حديثة. لكن، بعد قليل، يصبح تمردهم محافظة جديدة. تماهى نزار مع الحداثة الشعرية وكتب لغة أقرب إلى الصحافة تصدم المتعود على المجازات الذهنية الكبرى. حداثته ألقت بظلال كثيفة على كل من كتب الشعر، كانت قصائد نزار سريعة الانتشار. بحث عن لغة مختزلة، كما فعل يوسف إدريس عندما عثر على لغة سرد خارج التطوّر الرتيب لكتابة القصص. بدايتهما كانت تقريباً في وقت واحد. «أرخص ليالي» كتاب يوسف إدريس الأول كان في 1952، قبلها بسنوات قليلة، كانت مجموعة نزار الأولى «قالت لي السمراء» تصدر في بيروت. الاثنان طالعان من نكبة فلسطين وما تلاها من تفكيك لمؤسسات الفن والذوق، ناهيك بالسياسة والسلطة.
ولم يكن جديداً على الشعر العربي الأوصاف الحسية للمرأة، لكن نزار ظهر في فترة استعارت البرجوازية أخلاقها من العصر الفيكتوري، ولم يتمرد شعراؤها على الرومانتيكية الساذجة. كان جواً خاملاً، تقليدياً، وكان طبيعياً أن تكون قصائد تتحدث عن النهد والحلمات والنبيذ والحشيش والأفخاذ... قنبلة في ساحة معبد فرعوني.
المرة الثانية جاءته الشهرة من لعبة«ما يطلبه المستمعون»، فبدت اللغة خارجة من «ريبرتوار» قريب للأذهان، سهل الالتقاط، يتكرر لدغدغة الجمهور الراقص في حلبة تشبه الذكر، أو الديسكو. هذه الاستجابة جعلت من نزار «نجم شباك». لنسمعه يشرح معادلته: «أعتقد أن التغيير الكبير الذي أحدثته، هو إنزال الشعر إلى الشارع العام، وتحويله إلى مادة متفجرة، وحركة عصيان شعبية. لا أحد يستطيع أن يقول لك اليوم إنّه لا يحب الشعر، أو لا يقرأه أو لا يفهمه. فلقد مزجت الشعر السياسي والشعبي في كأس واحدة، وأزلت الكلفة نهائياً بين القصيدة وبين من كتبت من أجلهم. بكلمة واحدة، ألغيت فاكهة الشعر من حياة الناس، وأطعمتهم حنطة الشعر».
الشاعر أصبح سجين صوره «المبتكرة»، كان جاهزاً على الدوام لتلبية نداء الجمهور المدوخ على طريقة الدروايش في حفلات الذكر، أو منصات الديسكو.
لاعب ماهر يفهم خبايا السوق الشعري، يلعب على الساخن والملتهب من المشاعر، لا يزورك في أحلامك أو كوابيسك. إنّه مثل الأغنيات الخفيفة والقصص المسلية رفيقة ساعات السفر، هذه ضرورتها وربما روعتها المحببة. إنّها دائماً في المتناول. القارئ أولاً: هذا شعار نزار قبّاني الذي كان موهوباً في فهم قانون الخلود... في اللحظة الراهنة.