محمد شعيرلم يكن لدى نصر إجابات جاهزة ومعلّبة لكل شيء، بل «أسئلة» يعتبرها «لن تهدم الدين ولن تزعزع اليقين، بل ستفتح لنا مجالاً للفهم يري تجلي الإلهي في البشري، وانكشاف كلمة الله على لسان الإنسان». وهي أسئلة لم تخرج عن حدود الإيمان... حتى إن أصدقاءه كانوا ينادونه في ما بينهم بالشيخ نصر، في إشارة إلى انضمامه فترةً إلى جماعة الإخوان المسلمين عندما كان في بلدته في المحلة الكبرى.
عندما طرح أبو زيد تلك الأسئلة في أبحاثه عن «الإمام الشافعي والخطابات النقدية الجديدة لتحليل النصوص الدينيّة» التي قدّمها للترقّي في الجامعة عام 1993، قامت الدنيا ولم تقعد. رأى بعض أساتذة جامعة القاهرة على رأسهم عبد الصبور شاهين أنّ طرد أبو زيد من الجامعة بمثابة «انحسار للعلمانية في الجامعة». من هنا، سارع عبد الصبور إلى كتابة تقرير ساخن يرفض الترقية، ويتهم أبو زيد بالكفر. وبدأ يهاجمه في خطب الجمعة واكتملت الدائرة المرعبة بدعوى التفريق بينه وبين زوجته وزميلته ابتهال يونس أستاذة الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة. باختصار، وجد صاحب «نقد الخطاب الديني» نفسه مطلوباً وكان أمامه خياران: أن يذهب إلى المحكمة ويعلن تراجعه عن أبحاثه التي أثارت الجدل وينعم بالتالي بحماية المؤسسة الدينية، أو أن يرمي نفسه في أحضان المؤسسة السياسية التي تريد أن تستخدمه في معركتها ضدّ تيارات التأسلم. كلا الحلّين كان سيضمن له الحماية التي افتقدها بعد تكفيره... وكلاهما أيضاً كان اعترافاً منه بالهزيمة أمام محتكري الحقيقة المطلقة والسلطة المطلقة.
اختار نصر حلاً خاصاً به لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وسط هذا المناخ القاتل لخلايا التفكير، حمل حقائبه واتجه إلى هولندا استجابة لدعوة من جامعة ليدن، واستمرت رحلته «المنفى الثقافي» أكثر من 14 عاماً لم يزر فيها مصر إلا نادراً!
بعد رحيله، انتظر طويلاً أن يتلقى دعوةً من جامعته ليعود... لكنّ أحداً من المسؤولين في الجامعة لم يتحرّك، بل سُحبت كتبه من مكتبات كلياتها! عندها قال لنفسه: الجامعة ليست وطني، قرر أن يأتي في زيارة عادية إلى مواطن عادي يريد أن يلتقي بأهله وأصدقائه. في عام 2003، عاد إلى القاهرة بعدما أكمل الستين، ليسوّي أوراقه في الجامعة التي اضطر أن يغادرها لأنّه أصبح لا يستطيع دخولها إلا تحت الحراسة!
وبعدها، زار مدينته مرتين، بدعوة من «الجمعية الفلسفية» للمشاركة في مؤتمرها السنوي. بعد نهاية إحدى الجلسات في مؤتمر الجمعية الفلسفية منذ ثلاثة أعوام، رأينا المفكّر مرتبكاً. كان أحد زملائه في الندوة قد سأله عن رقم هاتفه في القاهرة، أملاه عليه فوراً. ولما سأله عن رقم هاتفه في هولندا، أخذ يعتصر ذاكرته محاولاً تذكّره فاضطر أخيراً أن يُخرج أوراقه ليجد الرقم. هكذا، تذكّر رقماً لم يستخدمه منذ أكثر من عشر سنوات، ولم يستطع تذكّر رقم يستخدمه يومياً في منفاه!
في هولندا، وجد نصر مناخاً مختلفاً، حراً ومفتوحاً للنقاش بل إمكان اقتحام القضايا المحرّمة في هذه الثقافة من دون خوف الاغتيال. هكذا احتل الكرسي الذي يحمل اسم الفيلسوف الكبير ابن رشد في جامعة الدراسات الإنسانية في أوترخت. وبعد سنوات يحصل على «جائزة ابن رشد» في مفارقة تلخّص الصلات التي تجمع المفكرين: صلات ليست فكرية فحسب، بل تمتد إلى تشابه ظروفهما الحياتية. كلاهما تعرض لضغوط أثّرت على عمله. أبو زيد يسمّيها «ضغوط الخطاب النقيض». أما قهر تلك الضغوط فيتحقق ــــــ حسب أبو زيد ــــــ بمطلب بسيط جداً: الحرية!

محاضرة نصر حامد أبو زيد «الفن وخطاب التحريم» ـ السادسة من مساء اليوم ـ مسرح دوّار الشمس (الطيونة ــــــ بيروت)
السابعة مساء السبت 3 أيار (مايو) الحالي ـ القاعة الشرقية في الجامعة الأميركية (القاهرة)


Persona non grata?

هل الدِّين معادٍ للفن؟ السؤال يجيب عنه نصر أبو زيد في محاضرته «الفن وخطاب التحريم». السؤال ليس صادماً، لكنه بدا كذلك لكثيرين في القاهرة. وهو ما تكشف عنه المضايقات التي تعرضت لها مؤسسة «المورد» خلال بحثها عن مكان يحتضن المحاضرة في القاهرة.
لقد رفضت نقابة الصحافيين استضافة الندوة، وحمت ماء الوجه بمناورة لا تنطلي على أحد: إذ طلبت مبلغاً خرافيّاً يفوق قدرة أيّة جمعيّة أهليّة. حوالى 9 آلاف دولار مقابل استخدام القاعة مدّة لا تتجاوز الثلاث ساعات!
بعد النقابة، اتجهت «المورد» إلى وزارة الثقافة لاكتراء قاعة مكتبة القاهرة. فجاء رد الوزير: «لا مانع. لكن لا بد من موافقة أمن الدولة».
وكان اللجوء إلى الجامعة الأميركية الملجأ الأخير ويبدو أنّها ستكون بديلاً لكل الأنشطة المثيرة للجدل. فقد لجأت إليها مؤسسة «هيكل للصحافة» عندما استضافت الكاتب الصحافي الأميركي سيمور هيرش، بعدما رفضت مكتبة القاهرة أن تفتح أبوابها له. ولكن إذا كان سؤال أبو زيد يقلق رموز المؤسسة الرسميّة إلى هذا الحدّ في مصر... فكيف ستكون إجابته إذاً؟
لا شكّ في أن صاحب «التفكير في زمن التكفير»، سيردّد ما أعلنه مراراً في كتاباته: «الفن هو مجال خصب لممارسة الحرية، وحين تصبح المجتمعات فزعة من الحرية، يكون الفن ضحية هذا الفزع»!