ما زال يحلم بتغيير العالم، ويتعارك مع اللغة
بحثاً عن السهل الممتنع. إنّه من أبرز كتّاب جيل الستينيات المصري الذي لعب دوراً مفصليّاً في مسار الأدب العربي الحديث. اشتغل على توظيف التراث في الأدب، وها هو يعود إلى التاريخ في «واحة الغروب» لمخاطبة الزمن الراهن... ويفوز بجائزة «بوكر» العربية التي تمنح للمرّة الأولى

محمد شعير
هل أنت متفائل؟ كان السؤال خاتمة حوار طويل مع الروائي المصري بهاء طاهر. إذ إنّ صاحب «الحب فى المنفى» من أكثر الشخصيات حساسية، يمرض عندما تطالعه نشرات الأخبار بمشاهد عنف وقتل. ربما هذا سر اكتئابه الدائم الذي دفعه إلى الإعلان أخيراً أنّ مقاطعته للصحف والنشرات الإخبارية لم تستمر طويلاً.
هل أنت متفائل؟ طرحت سؤالي بينما كان مبدع «خالتي صفية والدير» يتحدث عن إهمال الثقافة فى المجتمعات العربية وانهيار المؤسسات الإعلامية والتعليمية والثقافية، ما أخلى الساحة للثقافة السلفية... توقف قليلاً قبل أن يجيب: «إنّها معجزة أن يكون هناك جمهور للأدب وسط الطغيان الإعلامي الترفيهي والتعليم الرديء والأزمات الاقتصادية. حقيقة لا أعرف حلاً لهذا اللغز؟». إجابة دبلوماسية لأديب يرى أنّنا في «وضع ثقافي مريض وواقع بائس».
هل كان الضيق بالواقع سبباً للجوء طاهر إلى التاريخ في أحدث رواياته «واحة الغروب» (دار الشروق)، أم إنّ العودة هذه محاولة للإجابة عن سؤال الحاضر؟ يجيب: «أنا أكتب عندما يلحّ عليّ سؤال، قد يكون تاريخياً أو معاصراً. لكن في كل الأحوال، لا أكتب من برج عاجي، بل مهموماً بالواقع ومنشغلاً بالأسئلة التي يطرحها. اكتشفت، من خلال كتابة روايتي الأخيرة، أنّ الكثير من الأسئلة التي كانت مطروحة في القرن التاسع عشر، هي أسئلتنا نفسها اليوم، كأنّ شيئاً لم يتغيّر». لكن ما الذي ألحّ عليه ليكتب «واحة الغروب»؟ يجيب: «الفكرة التي أثارتني هي ما قام به الملازم محمود عزمي الذي نسف معبداً أثرياً في واحة سيوة لأسباب مجهولة، كان يحدث أحياناً أن تُهدم المعابد خلال فترات الانحطاط للبناء. ولكن أن يُنسف معبد عمداً، فهذه حادثة لا مثيل لها في التاريخ المصري. قرأت الكثير عن شخصيته، ووجدت فقط إشارة إلى أنّه نسف المعبد وأنّ حجارته استخدمت في تشييد سلالم بيت المأمور، وهو تفسير لم يقنعني. لذا رحتُ أفتّش عن إجابة لهذا السؤال: لماذا أقدم محمود عزمي على ذلك؟».
هكذا، قرأ بهاء كثيراً عن الواحة، وعن الظرف التاريخي الذي وقع فيه الحادث. يقول: «لا بد أنّ المأمور عاصر الثورة العرابية (1882)، وكان له موقف منها، ولا بد أنّه ذهب مُلزماً إلى منطقة سيوة لأنّها كانت منفى لكل المغضوب عليهم خلال الاحتلال البريطاني لمصر. والمعروف أنّ سيوة كانت مهد الوحي للإسكندر الأكبر. كل هذه معطيات شكّلتُ منها عالماً للرواية».
لكن كيف تطرح سؤال اللحظة الراهنة في رواية تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر؟ يجيب صاحب «نقطة النور»: «الأسئلة التي واجهها المأمور ما زالت مطروحة علينا حتى اليوم: الموقف من الماضي ومن الهيمنة الغربية، الموقف الطبقي. إذ كان مهموماً بالفوارق الطبقية في الواحة... وأعتقد أنّ الرواية عندما تلحّ على هذه القضايا فإنها تصبّ في صميم الحاضر».
عندما بدأ بهاء طاهر الكتابة في الستينيات، كان «يتصوّر أنّها ستغيّر العالم». لكن بعد 40 عاماً، لم يتغيّر شيء. هل ما زال مؤمناً بقدرة الكتابة على التغيير؟ «سؤال محبط»، ويضيف: «حدثَ تغيير في العالم بالفعل، لكنّه تغيير إلى الأسوأ. عندما بدأنا الكتابة، كنّا نتصور أنّ ما نكتبه هو لبنة صغيرة في مشروع نشر الوعي السليم، وأنّ رسالة الأدب ستؤتي ثمارها. ما حدث عكس ذلك تماماً، نوع من النكوص والتراجع، بحيث لا نندم على سنوات الستينيات، بل نندم على القرن التاسع عشر. ورغم ذلك، ما زالت الكتابة بالنسبة لي رسالة في وجه اليأس والإحباط».
ورغم ذلك، فإن «واحة الغروب» لم تحمل أي أمل. حين صدرت، وجد فيها النقاد أكثر روايات طاهر قتامة، حتى أنّ بطلها يختار الموت ويسعى إليه. يجيب: «لدي كلمة واحدة أجيب بها عن هذا السؤال وهي اقتباس من تشيخوف: «عندما أكتب عن أشياء محزنة لا أريدكم أن تبكوا على هذه الأشياء، بل أن تغيّروها». لذا لا أرى أن رسالة الرواية رسالة يأس إطلاقاً، بل اعتراض على الواقع، وليس مطلوباً مني أن أجمّل واقعاً مريضاً، أو أنشر رسالة أمل زائفة، بينما لا أجد فيه ملامح الأمل. وأعتقد أن هذه رسالة الأدب عموماً».
لكنّ الموت هو مصير الشخصيات المتمردة! هل كنتَ تعني أنّ أي محاولة للتمرد ستواجَه بالموت؟ يجيب: «إطلاقاً. كنت أعني أنّ التمرد في مثل ظروف الواحة، وفي هذا الظرف التاريخي، وفي تلك التقاليد الجامدة والوحشية، لا يمكن أن يسفر إلا عن ضياع المتمرد. لكنها ليست رسالة ضد التمرد بل هي رسالة لتمجيده».
يخاف طاهر من التكرار، لذا يرفض ما رصده النقاد أن هناك سمات تجمع بين بطل «الحب في المنفى» وبطل «واحة الغروب». لكن كليهما مغترب. فهل كان لسنوات المنفى (1975 ـ 1995) في أوروبا تأثير في اختيار شخصيات مغتربة لرواياتك؟ يجيب: «أنا مع أبو حيّان التوحيدي الذي قال: «وأغرب الغرباء من كان غريباً في وطنه». وبهذا المعنى كلّنا غرباء، وكل من لديه في هذا المجتمع حدّ أدنى من الوعي، يشعر بالغربة».
هل يأخذ بهاء الجمهور في الاعتبار حين يكتب؟ «بالتأكيد. لا تزال أفضل الروايات التي يقبل عليها الجمهور هي تلك التي تخاطب الناس عن أشياء تعنيهم، وتمسّ حياتهم. الشطارات التقنية تهم المبدعين، وإذا كانوا يريدون أن يكتبوا لأنفسهم فليعتنوا بتقنيات الحداثة وما بعد الحداثة، لكن ليعلموا أنهم بذلك يطردون الجماهير من عالم الأدب».
لكن الكاتب المصري البارز يستدرك مخافة أن يفسّر كلامه دفاعاً عن الجمود والكتابة التقليدية: «كل كتابة جيدة تتضمن قدراً من التجديد والتواصل مع الجماهير. همّ التواصل لم يعد قائماً الآن لدى كثير من الكتّاب، لا على مستوى اللغة ولا على مستوى الصياغة. وهنا، هل يحقّ لنا أن نلوم الجمهور إذا انفضّ عن قراءة الأدب؟».


سيرة
في 1964، نشر شاب درس التاريخ في كلية الآداب في القاهرة أولى قصصه القصيرة: يومها، كانت لغة «المظاهرة» جديدة، خالية من زخارف البلاغة. وقتها كتب يوسف إدريس مقدمة للقصة يبشّر فيها بالكاتب الجديد بهاء طاهر (1935) الذي لم يكن تجاوز الـ29، ثم أصدر مجموعته الأولى «الخطوبة» (1972). وبعد حرب أكتوبر، بدأ السادات حملته التي استهدفت المثقفين، فلم يكن أمام عدد كبير منهم الا الهجرة التي عرفت بالتغريبة الكبرى. اختار بهاء سويسرا حيث عمل مترجماً في الأمم المتحدة (1975). وبينما ظن كثيرون أنه توقف عن الكتابة، صدرت روايته الأولى «شرق النخيل» (1983)، ثم مجموعته «بالأمس حلمت بك» (1984) التي يعيد فيها صياغة العلاقة بين الشرق والغرب، ثم روايتاه «قالت ضحى» (1985) و«خالتي صفية والدير» (1991) التي تحدث فيها عن العلاقة بين المسلمين والأقباط. وعندما عاد من منفاه (1995)، أصدر «الحب فى المنفى» حيث كانت مذبحة صبرا وشاتيلا إطاراً للحديث عن علاقة الأنا العربية بالآخر الغربي. حظيت الرواية بحفاوة نقدية، وأتبعها بمجموعة «ذهبت إلى شلال» ثم رواية «نقطة نور» ( 2004) التي يلج فيها عوالم صوفية باطنية.


محارب خفيف مثقل بالحرب الواسعة

وائل عبد الفتاح
بهاء طاهر لا يلعب، إنّه في مهمة دائماً. محارب في رحلة البحث عن أرض جديدة. لا يمكن أن تنسى مشهد عبوره الشارع، كأنّه يمر بين طبقات الهواء. خفيف ومثقل بحرب قرر أن يدخلها وحده لصالح الجميع.
رحلاته الأولى محاولة لاكتشاف ذات مجنونة بالأحلام المستحيلة، ذات غريبة تقاوم سلطات تحت جلدها، وتبحث في الصحراء عن ممرات لحقيقة أكبر.
كان بهاء وقتها مذيعاً في الإذاعة، وبينه وبين الجمهور خطوط تواصل صَنَعها بصوته المؤثّر ومهارات درامية. هكذا، خلق مساحته الخاصة وسط جيل الستينيات الباحث عن جمهور والواقف على بعد خطوات من سلطة تحتكر الجمهور. اكتشاف الذات كان لعبة جيل الستينيات في مواجهة مصانع السلطة لتعبئة الجماهير في كتلة واحدة جاهزة لحروبها.
عَبَر بهاء من ثقوب الكتلة ليطرح أسئلته الأكثر اتساعاً في «الخطوبة» و«وأنا الملك جئت» و«قالت ضحى». كانت ذاته متورطة في الكتابة، يحارب كي لا تغيب حتى وهي غريبة في المنفى الاختياري.
لكنّه الآن في رحلة أخرى، وفي حرب تُبعد الذات لصالح رسالة أخرى أو «نقطة نور» لجمهور تركته السلطات الحالية وحيداً مرتبكاً في منتصف الطريق.
يحلم بهاء الآن بكتابة تتخطّى حواجز عزلة الأدباء، وترى في الارتباط بجمهور اللحظة الراهنة أسمى الأهداف. تختلف معه أو ترى أنّه ينفي ذاته بعيداً من الكتابة، لكنه يثير إعجاباً خفياً بطاقته المتفجّرة من بين جدران الأسى على ما يسميه «غياب المثقفين» أو «صعودهم إلى البرج العاجي».
بهاء الآن يحيي تراث سلالة مثقفين تمتد من رفاعة الطهطاوي... حتى يحيى حقي. مهمتها نقل الثقافة الرفيعة إلى الجمهور الواسع، بتصور عن فريضة يتحول فيها الأدب إلى رسالة وعي لتغيير الواقع، رسالة لا تهتم بالكتابة إلا بوصفها جسراً للتواصل، لا حفراً في المجهول. وجهة نظر تخلي لبهاء مساحةً عند جمهور هَجَر القراءة أو ابتعد عن ممرات الأدباء. أصبح بهاء صورة الأديب بعد غياب نجيب محفوظ.
أحترم الرحلتين عند بهاء طاهر، لكنّني أحب الرحلة الأولى أكثر، أحبّ غرام الجمهور الواسع بأعماله الأخيرة وطبعاتها المتعددة، لكن علامات أعمال الرحلة الأولى لا تفارقني. أبطاله يلعبون معي دائماً في مغامرات الهروب من اللحظة الراهنة. في الرحلتين هو محارب نبيل، يعيش في غلاف شفاف، قوي ويكاد يذوب من حساسيته المفرطة، يختار العزلة والوحدة بعيداً من دوائر المثقفين المغلقة، ويغرق في هموم الشرائح الواسعة. حياة بهاء طاهر هي قفز بين العزلة والشغف بالهموم العامة. حياة تحفر له وحده صورة حزن أبدي لا يخفت، وصوت يرن بإيقاعه المنفرد وسط الصخب العنيف.


خالي بهاء وبوكر
لم تكن نتيجة «بوكر العربيّة» مضمونة سلفاً لبهاء طاهر، خلافاً لما يمكن أن يتبادر إلى الأذهان. لقد شهدت الأيام التي تلت الاجتماع الأخير في لندن للجنة التحكيم حالة توتر قصوى في أوساط بعض الأعضاء، وراجت شائعات عن خلافات حادة داخل اللجنة، بشأن اسم الفائز المحتمل من بين مرشحي القائمة القصيرة الستة: خالد خليفة، جبور الدويهي، مكاوي سعيد، إلياس فركوح، مي منسى (إضافة إلى بهاء طاهر). علماً بأن كلّاً من هؤلاء فاز، بمجرد وصوله إلى التصفيات النهائيّة، بجائزة تقديريّة قيمتها عشرة آلاف دولار. وقد علمنا أن ضغوطاً معنويّة مورست على رئيس اللجنة، أيّاماً عدّة قبل اجتماعها الأخير (الصاخب) يوم أمس، وأن بعض الاحتجاجات طاولت آلية الاقتراع نفسها التي تمنع الاتفاق على اسم الفائز، بل تفترض وضع العلامات لكل مرشّح لتحديد الكاتب الذي يحظى بأكبر نسبة من النقاط. وكان الميل واضحاً لدى بعض الأعضاء، إلى اختيار اسم غير متداول، أو كاتب «جديد»، والابتعاد عن الاسم المكرّس، لا قلّة تقدير لتجربته الأدبيّة، بل سعياً للخروج من الحلقة المفرغة التي تدور دائماً حول الأسماء البارزة نفسها.
ومع ذلك، فقد فاز بهاء طاهر بـ«بوكر» (50 ألف دولار) عن روايته «واحة الغروب» التي ستُترجم أيضاً الى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية. وترأّس لجنة التحكيم هذه الدورة الكاتب صموئيل شمعون، وضّمت في عضويتها محمد برّادة، محمد بنيس، فيصل دراج، بول ستاركي، غالية قباني.
هكذا، تسلّم بهاء طاهر الجائزة في حفلة أقيمت على هامش معرض أبو ظبي للكتاب. وقرأ الشاعر محمد بنيس بيان لجنة التحكيم قائلاً إنّه «في التصويت النهائي، كان هناك توافق على ذهاب الجائزة إلى طاهر الذي قدّم عملاً روائياً نوعياً بالمعنى الجمالي والقيمي».
ثم تحدث الناقد فيصل دراج، عضو عن الرواية الفائزة، مشيراً إلى أنها «نص واسع فسيح الأرجاء عن عبث الزمن وهشاشة الوجود الإنساني والصفاء الروحي المستحيل الانتصار».
ثم صعد بهاء طاهر إلى المنصّة ليتسلّم جائزته من أحمد الصائغ رئيس «مؤسسة الإمارات» المانحة للجائزة، معرباً عن سعادته. وأضاف: «قلبي وعقلي يتجه إلى الروائيين الخمسة الذين بلغوا القائمة النهائية لأنّهم كلّهم يستحقونها».
يذكر أنّ جائزة «بوكر العربية» أو «الجائزة الدولية للرواية العربية» IPAF، هي النسخة الأجنبية الثالثة من جائزة بوكر البريطانية التي تأسّست قبل 40 عاماً.