45 أغنية لم تُذع تحاول شركات إنتاج «السطو عليها»، وأرشيف نادر تشتّت هنا وهناك... بعدما تهاوى على خشبة المسرح في مثل هذا اليوم، كيف تتذكر عائلة نصري شمس الدين ذاك الصوت الأجش؟ وكيف تحمي ما بقي من تراثه الفني؟كامل جابريخال للداخل إلى بلدة جون الشوفية، أنّه سيلتقي نصري شمس الدين، خارجاً من أحد أزقتها أو حقولها... في تلك البلدة التي مثّلت الوحي لكلمات أغنياته وألحان بعضها، ترعرع هذا الفنان الذي غاب قبل 25 عاماً، وما زال حاضراً في ذاكرة الناس، كأبرز رموز الأغنية اللبنانية.
يصدحُ من جهاز التسجيل صوته المتسائل عن رصيده الانتخابي في مسقط رأسه، في مسرحية «ناس من ورق»: «جون، جون بلدي جون... جون بتعطيك زيت وزيتون...الله عالزيت والزيتون، هالله هالله يا جون... بلد الحبايب هالله يا جون، وأنا مسوكر نايب، ربينا بفياتك، قطفنا زيتوناتك، وهلق بدي إترشح وترشيحي مضمون». كلمات قد تختصر العلاقة المميزة بين جون وابنها الراحل باكراً عن 54 عاماً.
يختزل التمثال النصفي المنتصب في «ساحة نصري شمس الدين» وسط البلدة منذ آب 2005، بعضاً من طموح العائلة لتكريم هذا العملاق ـ عوضاً عن الجهات الرسمية ـ بعد رحيله المفاجئ على خشبة المسرح في سوريا، يوم 18 آذار (مارس) 1983. ذلك أنّ الفنان خليل ريشا نحت تمثالاً له معتمراً طربوشه، الطربوش الذي غنّاه قبل أن يهوي: «تركوني لحالي لحالي، غني الليالي بالليالي، خلوني بالعالي العالي إرمي هالطربوش».
حلمُ تحويل بيته شبه المهجور في ساحة جون القديمة، إلى متحف لم يزل يراود عائلته. وخصوصاً بعدما قوّضت السنوات بعض أسس هذا الحلم، إما بسبب التمويل، أو بسبب فقدان جزء كبير من أرشيفه. وحده طربوش نصري وعوداه ـ من أصل خمسة تركها ـ تزين غرفة الجلوس. وتلك الزاوية الزجاجية المقفلة على «جفته» و«جربنديته» و«مطرته» و«الطاقية» وميداليات «الداما»... تبدّد بعض القلق على ضياع إرث نصري شمس الدين. يؤكد مصطفى نصر الدين شمس الدين «أن الكثير من الأرشيف المصوّر لوالدي، لم نعد نعرف أين أصبح. كثيرون أتوا بعد وفاته واستعاروا الصور ليكتبوا عنه. لا أتذكّر أن أحداً أخذ صورة وأعادها، حتى بات ألبومه شبه فارغ، ومجمل ما بقي هو صور منقولة». بين صور نصري التي تحتاج إلى ترميم، تلك التي التُقطت له في رحلات الصيد في حقول جون وضواحيها، قرب «عين حيرون» حيث كان يطيب له المرابطة للصيد أو الاتكاء على زيتونة. كان هناك يحفظ نصاً أو سيناريو، أو يتدرب على لحن من رصيده الذي وصل إلى حدود 1075 أغنية و19 مسرحية وثلاثة أفلام («بياع الخواتم»، «بنت الحارس»، و«سفر برلك»)... إرث جعل صاحبه يترك بصمات صوته الجبليّ الهادر عذباً، على الأغنية اللبنانية الشعبية التراثية.
ثمة معلومة «صارخة» يفجّرها مصطفى شمس الدين، مفادها أن «هناك بين 40 و45 تسجيلاً غنائياً لوالدي لم يذع حتى الآن. فضلاً عن نحو مئة أغنية حيّة قدمها لمرة واحدة فقط، على المسرح أو في أحد الاستديوهات، مثل «تفتا هندي». ولماذا هذا الإجحاف بحق صاحب الأغنية الجبلية بعد ربع قرن على رحيله؟ يقول مصطفى شمس الدين: «عرضنا هذا الرصيد على بعض الجهات المنتجة، وقد فوجئنا بأن المسؤولين في هذه الشركات، أرادوا امتلاك حقّ التصرف المطلق بهذه الأغاني، ربما لإذاعتها بأصوات غير صوت نصري... هناك من يسعى إلى محاربة والدي حتى في قبره! لم نجد أيّ جهة محلية على نحو الإذاعة اللبنانية مثلاً ـ على رغم أوضاعها المادية الصعبة ـ لتبني المشروع مقابل مردود مالي محدد، يعود ريعه لإنشاء متحف نصري شمس الدين الذي نحلم به من سنوات... تمكنّا حتى اليوم من حماية أرشيفه المسجل من التلف، لكننا نخشى أن نخفق في حمايته مستقبلاً. جرّبنا مرة وسجلنا مع إحدى الشركات أسطوانة تحت عنوان «تحية»، قدمنا فيها أغنية لم تذع قبل رحيل نصري (عنوانها «راح الشهر»). وحتى اليوم لم نتلقَّ من الأرباح إلا الوعود. نخاف من استباحة هذه الثروة النادرة، تماماً مثلما يجري لأرشيف نصري الإذاعي والتلفزيوني الموزع هنا وهناك». ويضيف شارحاً: «هناك أكثر من 100 أغنية هي من إنتاج والدي الخاص. أجريتُ بعض الاتصالات مع شركات وإذاعات، معظمهم يريد أن يدفع لاحقاً، وتبدأ المساومة وكأننا على بسطة خضروات». ثم يستدرك قائلاً: «ليس الأمر مادياً فحسب. نبحث عمّن يحمي حق والدي الذي هو حقنا».
بعد رحيله، ترك نصري ثروة فنية، لكنه لم يترك رصيداً مادياً كافياً للعائلة. ولأن الفنان غير محمي أو مضمون، كان على أولاده أن يناضلوا للاستمرار... تقول يسرى الداعوق، زوجة نصري، العائدة إلى شقة العائلة في صيدا، بعد جلسة غسيل كلى: «كان الأولاد صغاراً يوم توفي والدهم. الفنان في لبنان غير محمي، كذلك إنتاجه وأعماله الفنية. وكل ما قدمه نصري على مدى ثلاثين سنة لا نستفيد منه بقرش واحد. أضف إلى ذلك أنه ترك فراغاً نعيشه حتى اليوم. كان يخصص وقت فراغه للعائلة... كان يأخذنا كثيراً إلى جون حيث يلتقي والدته التي توفيت قبله بستة أشهر. وكان يشارك أبناء بلدته أفراحهم وأتراحهم، فضلاً عن تفرغه للحقل والكروم، ولموسم قطاف الزيتون وعصره».
هناك مسألة أخرى تؤلم عائلة نصري شمس الدين، «وهي تجاهل الكثير من وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية لتاريخ نصري ورصيده، والتعتيم عليه. يؤسفني القول إن هناك بعض المحطات والإذاعات في سوريا والأردن ودبي وغيرها، تتذكر نصري وتقدم أعماله، أكثر بكثير مما تفعل برامجنا المحلية»، حسب تأكيد ابنه مصطفى.


ريما، العود... والطربوشبعد مدرسة جون الابتدائية حيث تابع دراسته الأولى، انتقل إلى مدرسة المقاصد في صيدا. وفي سنّ السابعة عشرة، قبل إتمام المرحلة الثانوية، بدأ تدريس مادة اللغة العربية في مدرسة شبعا في قضاء حاصبيا، ثم في مدينة صور. وفي ثانوية الجعفرية في صور، أقام أمام التلامذة حفلة غنائية، عازفاً على العود. حينها، تدخل المدير ليخيِّره بين مهنة التدريس أو الغناء، فاختار ما يعشق: الفنّ والطرب.
بعدها، سافر إلى مصر ليعمل في شركة «نحاس فيلم»، ثم إلى بلجيكا حيث درس الموسيقى، وعاد إلى بيروت حاملاً دبلوماً في الموسيقى. ولأنه لم يوفّق في ممارسة ما يحب، عمل موظفاً في مركز البريد في بيروت، في مجال الاتصالات الهاتفية. وتدخلت الصدفة بعد عام 1952، حين قرأ إعلاناً في إحدى الصحف بأنّ إذاعة «الشرق الأدنى» تبحث عن مواهب فنية شابة، فسارع إليها. وقف ممتحَناً أمام لجنة تحكيم، ضمّت عاصي ومنصور الرحباني، عبد الغني شعبان، حليم الرومي وغيرهم... تقرر ضمه إلى الفريق الغنائي في الإذاعة التي أصبحت تعرف لاحقاً بإذاعة «لبنان الرسمية». ومن هناك، انطلق في مشواره الفني عندما أدى ثلاثة اسكتشات غنائية هي «مزراب العين» و«حلوة وأوتوموبيل» و«براد الجمعية». ثم قدّم أغنيته الخاصة الأولى («بحلّفك يا طير بالفرقة») وهي من ألحان فيلمون وهبي الذي جمعته بنصري صداقة حميمة، إلى جانب إيلي شويري ووليم حسواني.
ومع فيروز، كوّن نصري شمس الدين عموداً رابعاً في المسرح الرحباني الذي انضم إليه عام 1961 وانفرد عنه عام 1978، بعد مسرحية «بترا» وافتراق فيروز عن عاصي، لينطلق بأغان وألبومات منفردة، توّجها في ألبوم «الطربوش» من تلحين ملحم بركات. شارك في تأليف وتلحين بعض أغانيه مثل «ليلى دخل عيونها»، ولحّن قصيدة «بعرسك جيت غنيلك قصيدة» التي غناها في عرس ابنته ألماسة، وهي من كلمات مصطفى محمود.
في عام 1956، تزوّج نصري شمس الدين يسرى الداعوق وأنجب منها: مصطفى وألماسة (توأمان)، مي وماهر، ريما ولين (توأمان).
وقبل توجهه إلى سوريا حيث كان مقرراً إحياؤه حفلة غنائية، أصيبت ابنته ريما بوعكة صحية. «شعرتُ بوالدي كأنه انهار، عانقني، راح يذهب ويجيء في البيت. وما إن دخل الحمام حتى سقط وشجّ رأسه. بعدها، عبّر عن رغبته في تأجيل الحفلة ليبقى إلى جانبي. أخبرته بأنني أصبحت أفضل، وأن لديه ارتباطات لا يمكن إلغاؤها. يومها، تحدث عن الموت. قال لنا أشعر بأنني سأموت قريباً. استغربنا. لكن ما توقعه حدث، فتوفي كما والده نتيجة نزف دماغي حاد، وهو يقف على المسرح في دمشق».
بعد رحيله، عمد عادل شمس الدين (ابن عم نصري) إلى تأدية أغاني الفنان الراحل في المناسبات من أجل ديمومتها. بيد أن الموت المفاجئ عاجل عادل أيضاً، فرحل عام 2006 قبل أن يبلغ الخمسين.