القاهرة ـ محمد خيرالمؤسسة الثقافيّة المستقلّة في مصر تكتشف «صيد الساحرات»تشهد مصر، منذ سنوات، نهضة إبداعيّة شبابيّة تفتّحت بعيداً عن وصاية المؤسسة الرسميّة المتهالكة. و«ساقية الصاوي» من لمبادرات المستقلّة الرائدة التي تجسّد صحوة المجتمع الأهلي في الحقل لثقافي... لكن الرقابة، هنا أيضاً، بالمرصاد
ربما لا تعلم هذه الطفلة حتى الآن أنّها محور الجدل الذي احتدم ـ ولا يزال ـ في القاهرة، منذ لمحها سعيد أبو معلا تمارس نزق طفولتها على شاطئ الاسكندريّة. يومذاك حرّك المشهد حساسيّة الفنان، فإذا بالمصوّر الفلسطيني يسجّل تلك اللحظة بكاميرته. صورة لبنت تجري قافزةً فوق الماء، كما يمكن أن تفعل كل بنات العالم، وقد رفعت ثوبها حتى لا تبلّله. لكنّ ثوبها المرفوع لم يعجب بعض العقول المريضة التي وجدت فيه تناقضاً مشبوهاً مع الحجاب الذي بكّر بالإحاطة رأس الفتاة ذات السنوات الخمس. إذا كان لا بد من أمر صادم، منطقياً، فهو أن يغطّى رأس ابنة الخامسة، لا أن يرفع ذلك الملاك الصغير أذيال ثوبه عن الرمال. لكنّ بعض أعضاء لجنة التحكيم في «مسابقة التصوير الفوتوغرافي» التي نظّمها مركز «ساقية الصاوي» قبل أسابيع، قرّر استبعاد الصورة، ومنعها من المشاركة في المعرض برمّته. أعلن هؤلاء «خوفهم» من دون تحديد موضعه: أهو من الحجاب في أعلى الصورة، أم من الساقين المكشوفتين أسفلها؟
الصورة التي التقطها صاحبها في صيف 2007، وأطلق عليها اسم «انطلاق البراءة»، عُرفت إعلامياً باسم «الصورة الممنوعة». والطريف أنّ أبو معلا ليس مصوّراً فوتوغرافياً محترفاً، بل ناقد وباحث وصحافي، يقيم في القاهرة منذ سنتين ونصف سنة، لتحضير دراسة في الصحافة الإلكترونية، ويدرس في معهد البحوث والدراسات العليا. والأطرف أو الأغرب أنّ أحد أهم الأماكن التي ينشر فيها أبو معلا مقالاته الثقافية، هو موقع «إسلام أون لاين» القريب من جماعة الإخوان المسلمين، بل يكاد يكون معبّراً عنها. وهو الموقع الذي يرأس هيئة الإشراف عليه الدكتور يوسف القرضاوي، مفتي دولة قطر، وأحد كبار رموز الجماعة الشهيرة.
ذلك لم يمنع أبو معلا من التقاط صورته، بعفويّة الفنان وصدقه، لا من خوض معركته دفاعاً عنها، منذ فوجئ باستبعادها من مسابقة «ساقية الصاوي». يقول لـ«الأخبار»: «أخبرني أحد منظمي المسابقة، وهو المسؤول عن معرض الصور، أنّ صورتي استُبعدت لأنّ لجنة التحكيم رأت أنّ الجمهور قد يرى فيها إساءةً للحجاب. ثم نصحني بنشرها في الصحف، قائلاً لي: هذا حقك، فهي صورة جيدة ومعبّرة»! ويتابع أبو معلا: «هذه الأسباب تتناقض مع ما قاله لاحقاً محمد الصاوي مدير «الساقية» بأنّ الصورة استُبعدت بسبب عيوب فنية. الأسباب المتعلقة بالحجاب هي التي ذكروها لي حرفياً، حتى إن بعض الصحف شنّت هجوماً على إدارة هذا المركز الثقافي، ومنها «الفجر» و«روز اليوسف» و«البديل». وكنت قد أنشأتُ «غروب» على الـ«فايس بوك» حيث رحت أشرح القضية، عندها فقط تكلموا عن «العيوب الفنية». أظن أنّ مشكلة الساقية أنّها تقع في تناقض سببه رغبتها في الجمع بين الليبرالية والأصولية، ما أدّى إلى وقوع سوابق مشابهة لما تعرضت له». وعمّا قيل بأنّ الصورة استُبعدت لأسباب تتعلّق باستغلال الطفولة، أجاب أبو معلا: «الصورة لا تحمل أي إساءة للطفولة، ولو كانت الطفلة أختي الصغيرة لما اعترضت على لعبها على الشاطئ وارتدائها ملابس البحر. مع ذلك، لم أكن لأنشر الصورة لو كان وجه الطفلة واضحاً. تعمّدت ألا يظهر وجهها، لأني أردت نقل الحالة الإنسانيّة الجميلة، بمعزل عن الشخص».
وكان اللغط الذي رافق منع صورة «انطلاق البراءة»، قد أدّى إلى التباس صدم كثيرين. إذ تم الخلط بين «مسابقة الساقية للتصوير الفوتوغرافي» التي نتحدّث عنها، ومسابقة أخرى تزامنت معها، واستضافتها الساقية تحت عنوان «صورة 2007». هذه الأخيرة ضمّت لجنة تحكيمها أسماء مرموقة، ومعروفة بتقدّميّتها أيضاً، مثل الفنان اليساري محيي الدين اللباد، وأيمن الصياد رئيس تحرير مجلة «وجهات نظر» بما لها من ثقل فكري، وعمرو نبيل المصوّر المصري الشهير في وكالة «أسوشيتدبرس» وغيرهم. وفي اتصال مع «الأخبار»، أوضح أيمن الصياد أنّ مسابقة «صورة 2007» التي استضافتها الساقية، تنظّمها شعبة المصوّرين في نقابة الصحافيين المصريين. وأكد الصيّاد أن الأخيرة لم ترفض سوى صورة واحدة لعدم مطابقتها الشروط الإدارية، إذ التقطت ونشرت قبل 2007، وأكد أنّه لا يعرف شيئاً عن صورة أبو معلا.
لم يُزل اللبس تماماً سوى عمرو نبيل الذي هو عضو لجنة التحكيم ونائب مقرر شعبة المصورين الصحافيين. إذ قال إنّ مسابقة الشعبة تختلف عن «مسابقة الساقية للتصوير الفوتوغرافي» التي استبعدت الصورة المذكورة. ولا يمكن لأبو معلا الاشتراك في المسابقة الأولى لأنها تشترط الجنسية المصرية، مؤكداً أنّ الخلط جاء بسبب إقامة المسابقتين والمعرضين في المكان نفسه والفترة ذاتها تقريباً.
إنّها الساقية إذاً، وليست النقابة وأسماءها العريقة! ما يضيف مزيداً من الغضب تجاه إدارة «ساقية الصاوي». حادثة «المنع» في هذا المركز الفني ليست الأولى، لقد رفض سابقاً عرض الفيلم الروائي القصير «الجنيه الخامس» الذي كتبه محمد حماد وأخرجه أحمد خالد، ويدور حول لقاءات عاطفية وحسية بين شباب وفتيات يعانون من الكبت الجنسي، مسرحها المقاعد الخلفية لحافلات القاهرة المكيّفة. وبما أن تذكرة الحافلة بجنيهين، يكون المجموع للشاب والفتاة 4 جنيهات، بينما يذهب الجنيه الخامس رشوة إلى السائق المتواطئ. رفضت «ساقية الصاوي» عرض الشريط الذي كانت بطلته محجّبة أيضاً. وكان القائمون على «الساقية» قد اعتادوا تدريجاً منع الجمهور من الرقص تجاوباً مع الفنانين أثناء الحفلات. وهي مشكلة حُلّت من تلقاء نفسها عندما «طُوِّر» المسرح، ووضعت مقاعد إضافية احتلت الأماكن التي كان الشباب «يرتكبون» فيها فعلتهم «المشينة» (أي الرقص). وفي هذا السياق يأتي المنع الذي تعرضت له صورة سعيد أبو معلا.
لكن، من جهة أخرى، يبدو من غير المنصف اختصار نشاط مركز الساقية في خانة المنع. هذا المركز الفني والثقافي الذي أقيم في محل منطقة كانت أقرب إلى «خرابة» ومقلب للقمامة أسفل أحد الجسور، تحوّل سريعاً إلى أحد أهم مراكز النشاط الفني في القاهرة. وهو أول مركز ثقافي «خاص» أسّسه المهندس محمد نجل الروائي الراحل ووزير الثقافة الأسبق عبد المنعم الصاوي. وتستضيف الساقية عدداً كبيراً من الفعاليات، وتضم مسرحاً ومعرضاً دائماً للفن التشكيلي، ومكتبة عامة وأخرى للطفل وثالثة موسيقية ورابعة إلكترونية.
ومع نجاح المركز في رعاية الفنون الشابة، استقطب عدداً من الرعاة البارزين كنجيب ساويرس و«مصر للطيران»، كل هذا الزخم لم يمنع بعضهم من إعلان تخوفه من أن يفرض شكلٌ «محافظ» من الثقافة حتى على ناصية العمل الخاص والمستقل الذي يفترض به أن يكون على يسار ثقافة الدولة... فإذا به على يمينها! هل بدأ، هنا أيضاً، «صيد الساحرات»؟ هذا ما تنبئ به حوادث المنع المتكرر والتي تتميز بأنّها نتيجة «رقابة ذاتيّة»، لا خضوع لضغوط أو تهديدات خارجيّة من أي نوع... ما يدل على أنّ في الأمر «قناعةً شخصيةً» لا مجرد خوف من أن «يسيء الجمهور فهم الصورة» كما صرّح بعض المسؤولين في «الساقية». كل ذلك يعيد إلى الأذهان، ولو من بعيد، ذكرى بشعة، هي الحملة التي تعرّضت لها قبل سنوات الباحثة المصريّة سامية محرز، في قلب «الجامعة الأميركيّة» في القاهرة... لأنّها كانت تدرّس رواية محمد شكري «الخبز الحافي»!


الصورة الفوتوغرافيّة بين كرّ وفرّ
قبل خمس سنوات، أسّست «ساقية الصاوي» مسابقتها للتصوير الفوتوغرافي، وهي المسابقة التي لقيت نجاحاً شعبياً واسعاً، فضلاً عن أنّها مسابقة مفتوحة للجنسيات المختلفة لا تشترط نشر الصورة مسبقاً في الصحافة. وضمت الدورة الأخيرة مطلع هذا العام، خمسة فروع: «لقطة حرة»، «الحركة»، «بورتريه»، «أبيض أسود» و«الطبيعة»، شارك فيها أكثر من 800 صورة فوتوغرافية متنوعة. أما مسابقة التصوير الفوتوغرافي «مصر 2007»، فأطلقتها شعبة المصورين في نقابة الصحافيين المصرية التي تأسست في 6 أيلول (سبتمبر) 2007 ونظمت المسابقة بهدف «الارتقاء بمستوى التصوير الصحافي في مصر من خلال مسابقات ودورات تدريبية وندوات ومعارض، وإبراز أهمية المصور الصحافي والتوعية بأهمية الصورة الصحافية الصادقة... وكذلك العمل على ضمان حرية التعبير وتوفير الحماية للمصورين أثناء عملهم». وكان أهم الأسباب وراء هذا التأسيس «المتأخر» للشعبة الاعتداءات التي تعرض لها عدد من المصورين الصحافيين في مصر، أثناء تغطيتهم الأحداث التي أنتجها الحراك السياسي المصري خلال السنوات الثلاث الأخيرة. وقد أدّت الصورة دوراً رئيسياً في نقل تلك الأحداث إلى الرأي العام، رغم ما تعرّض له المصوّرون من إصابات جسيمة. حتى إنّ عمرو نبيل، أحد أعضاء لجنة تحكيم مسابقة الصاوي، كاد يفقد عينه أثناء تغطيته الانتخابات البرلمانية المصريّة في عام 2005.