حسين بن حمزة
قارئ ديوان «سقط المتاع» (دار الانتشار العربي ـــــ المجلس الثقافي للبنان الجنوبي) للعلّامة الشيخ عبد الحسين صادق، لن ينجو من فكرة أنّ صاحبه هو مرجع ديني كبير. والسبب أنّ العلّامة نفسه لم ينشر شيئاً من شعره في حياته. ويمكن بسهولة أن نعزو ذلك إلى علوّ منزلته الدينية التي يصعب جمع صرامتها ومهابتها المفترضة مع قرض الشعر. كأن الشعر ـــــ وإن كان مميزاً ـــــ مرتبط بالعاطفة والتفلّت من الرصانة الفكرية والفقهية، والإقبال عليه ينتقص من سموّ المرتبة الدينية وقدرها. ولعل في تسمية «سقط المتاع» دلالة واضحة على الدرجة الهامشية التي كان يمنحها الشيخ نفسه لما يكتبه من شعر. إضافة إلى إصراره على حجب شعره، حسبما جاء في المقدّمة.
لكن المرجعية الدينية، من جانب آخر، توجد لدى القارئ فضولاً لمعرفة نوعية الشعر الذي قد يكتبه رجل دين وفقيه كبير. ومع تقدمه في القراءة تتضاءل هذه الفكرة، ويروح القارئ يستمتع بما يقرأه بوصفه شعراً كأي شعر آخر. ظل شعر العلّامة عبد الحسين صادق حبيس مخطوطاته. وبعد وفاته، قرّر نجله حبيب صادق، رجل الثقافة والعلم، والنضال الفكري والسياسي، أن يجمع هذا الشعر بعد تحقيقه. و«سقط المتاع» هو الجزء الثاني، بعد جزء أول صدر بعنوان «عَرْفُ الولاء».
يمهّد صادق للديوان بمقدمة توضح المصادر والمخطوطات التي عاد إليها، وكيفية جمع القصائد وفرزها وتبويبها بحسب موضوعاتها وأغراضها. ويكشف هذا التبويب عن فكرة أخرى، وهي انتماء الشاعر فيها إلى زمنه وبيئته وانتماؤه إلى تراثه الشعري، في آن واحد. ولهذا نجد قصائد في الفخر والحنين والتصوف والمديح والدعوة إلى الإصلاح والرثاء. لكن هذه العناوين التقليدية المصوغة في قالب شعري تقليدي، لا تمنع القارئ من التمتع بموهبة لافتة وسجيّة واثقة في تنزيل المعاني والصور داخل البيت الشعري الكلاسيكي. إذ نجد متانة، وجزالة متدفقة، لا تُظهر أوزانها وتفعيلاتها قسراً في استخدام المفردات، أو معاملة متعسّفة لشؤون البلاغة. لا نجد قافية قلقة أو في غير مكانها، ولا كوابح للسيولة بسبب صرامة بحور العروض. ولعل شخصية الشاعر، المسنودة بداهةً بالفقه والدين، تمنح هذا الشعر نكهة إضافية، خصوصاً حين نقرأ له في باب الوجدانيات والهوى والمحبة، كما هي الحال في قصيدة «ظبي أغن»، ومطلعها: «أنا، في غزال الخيفِ، صبُّ/ صالي الحشا، والدمعُ صبُّ/ لي مهجةٌ، هي للغرا/ م ِ وللهوى العذريِّ نهبُ».
القارئ يعثر على الشعرية ذاتها والتمكّن نفسه في أغلب قصائد الديوان، حيث تتوالى فيها ثمّة نبرة لغوية تمزج زهد الفقيه بثراء المعجم الشعري الخاص. وهذا يُشعرنا بأن الموضوعات والأغراض المختلفة لا وظيفة لها سوى تصنيف القصائد وفهرستها. أما الشعر الذي فيها فهو متأتٍّ من مخيلة واحدة. مخيلة الشيخ الجليل والشاعر المتمكّن.