حاتم حافظ
كان قد تجاوز الثلاثين حين نشر باكورته «اللعب خارج الحلبة»، لكنه لم يلفت الانتباه فعلاً إلا بعد صدور «الأوباش» (1978). يومها رأى نجيب محفوظ أنّه لا أحد قرأ الريف المصري كما فعل خيري شلبي.
لكن يبدو أنّ قلّة قليلة انتبهت إلى أنّ قيمة «الأوباش» لا تقتصر على الفهم الدقيق للريف المصري، بل تتعدّى ذلك إلى التقنية التي تناول بها الريف عبر حدث محدد. كانت روايته أشبه ما تكون بواقعية سحرية آخذة في التكوُّن. لكنها ليست كواقعية أميركا اللاتينية السحرية التي تكتشف كيف يحوّل الخيال الشعبي وقائعه الحياتية إلى أساطير. في مذكراته يعطي ماركيز مثلاً على تلك الواقعيّة، من خلال حادث هروب فتاة بصحبة الرجل الذي تحبّ، يتحوَّل في الخيال الشعبي إلى صعود أسطوري إلى السماء.
واقعية شلبي السحرية في «الأوباش» تدع الواقع يقدم نفسه بنفسه باعتباره فوق الواقع، كأسطورة، لكن واقعية. وفي الوقت نفسه، يُفصح عن أنّ الحوادث الخارقة ليست كذلك، كما توهمنا. إن الماضي الأسطوري سوف يُستدعى بكتاب ينام عليه الصبي (عامل التراحيل)، من دون أن يعلم أن تاريخ عائلته مسطور فيه. وحين يكتشف علاقته بالباشا، يكتشف ذلك كأنه حدث أسطوري وليس واقعاً... رغم أن الحدث واقعي.
في بداية الثمانينيات، حاول شلبي طرق دروب جديدة للتعامل مع البنية الحُلمية واستنفار مناطق اللاوعي، في ثلاث مجموعات قصصية. وسيصنع روايته التاريخية الفريدة «رحلات الطرشجي الحلوجي» (1985) التي كشفت أنّ رواية تاريخية لا تأخذ في اعتبارها جغرافية التاريخ، لا معنى لها. ولذلك فالرواية تقنياً كُتبت بوعي حقيقي لحلول الزمن في المكان، وتحقّق المكان في الزمن. لذا يمكن القول إنها رواية «زمكانية» أكثر منها رواية تاريخية. وفي منتصف الثمانينيات، سيكتب رواية واقعية ضخمة بعنوان «الشطار»، وسيظلّ على إخلاصه للواقعية.
الحقيقة أنّ واقعية شلبي ــــ رغم جذورها الغربية ــــ تمتاز بطابع حكائي مصري أصيل. ولست أبالغ إن قلت إنّه فعل بالرواية ما فعله يوسف إدريس بالقصة: قام بتمصيرها. فإن كان نجيب محفوظ مصَّر موضوعات السرد، فإن شلبي مصَّر مبناه. لا يمكن لقارئ شلبي أن يخطئ الحكّاء الجالس خلف السرد، كمنشد السيرة في الريف المصري. وفي رأيي أنّ حكائية السرد عند شلبي تخدع دائماً. يبدو السرد كأنّه يسيل بلا هدف، بينما يقع القارئ في شرك بنية خدَّاعة تخفي نفسها بنفسها، حتى لا تشغله عن متابعة الحدث لأنّه الأهم!
سرد خيري شلبي أشبه ما يكون بطريقة بناء النكتة المصرية، فهذه الأخيرة تبدو من فرط بساطتها وعامية لغتها، بل سوقيتها أحياناً، بلا بنية... في حين أن البنية ـــــ برأيي ـــــ هي كل شيء في النكتة المصرية. لولا الطريقة التي بُنيت بها تلك النكتة، لما كان للمفارقة الكامنة فيها أثر مضحك مبكٍ.
إنّ طريقته في الخداع تعتمد تقنية الماضي المستتر ــــ كأسطورة تنتظر لحظة انفجار ـــ وهي تقنية أصيلة في روايات شلبي. وفي رأيي أنّها تقنية إيديولوجية، تعكس وعياً بفكرة التاريخ، وبأنّ التاريخ ليس أحداثاً تتابع بل هو أحداث تتفاعل في ما بينها.
ولعل هذا الوعي بالتاريخ، له علاقة بمعايشة سبعينيات القرن الماضي. «زمن الانفتاح» وهو قلب هرم القيم في مصر، إذ أحلَّ «التبادل» مكان قيم كانت أصيلة في الشعب المصري. ويبدو أن عداوة ما لتلك الفترة، حكمت البنية السردية التي ترفض أن يُدفن الماضي من دون حساب.
ولذلك، فإن شلبي يعد بجدارة داهية الرواية العربية. فلا تستسلم لنعومة الحرير السلس لسرده. إذا دققنا، سنجد أن طرّازاً بارعاً يقف خلف السرد، وأن التفاصيل لديه هي كل شيء. تجعيدة جبين فلّاح غفل يجرّ حماره، مهمة... لكن قد تكون أهم منها تدويرة أذن الحمار نفسه. وفرة التفاصيل في سرد شلبي هي أكثر من أن تكون طريقة واقعية للتعبير عن العالم. وفرة التفاصيل لديه ترتبط بوفرة التفاصيل في الشخصية المصرية المعجونة بخبرات تاريخ طويل من الجدل مع الطبيعة، والجدل مع الواقع، والجدل مع الآخر. وهي أيضاً ترتبط بطريقة استحضار الواقع إلى السرد حتى يمكنك الاكتفاء بالسرد من دون مخالطة الواقع. وسوف تعرف كقارئ خريطة حي معروف في وسط القاهرة كما لم يعرفه سكانه، بعد قراءتك «صالح هيصة»، كما ستعرف خريطة حي الجمالية كما لم يعرفه سكانه بعد قراءتك «الشطار».