نجوان درويش
يندرج «في الهمّ شرقُ» الشريط الأول لمحاسن ناصر الدين (دراما تسجيلية ـــــ 23 دقيقة) ضمن موجة أفلام الديجيتال القصيرة التي تشهد نمواً ملحوظاً في فلسطين وبلدان عربية أخرى. وترتفع نسبة صاحبات الأفلام في فلسطين مقابل أصحاب الأفلام، إلى درجة يمكن معها الحديث عن ظاهرة «نساء الديجيتال» كأن الديجتال أصبح وسيطهن الجديد لسرد الحكايات.
وإن كان بعض صناع الأفلام يذهبون إلى الديجيتال بوصفه حساسية جديدة وفناً «جديداً» ليس هو «السينما» بالضرورة، فإن بعضهم الآخر يتوجه إلى الديجيتال بصفته المتاح من السينما، ريثما تتوافر فرصة لإنتاج «سينمائي» بكل معنى الكلمةفي «في الهمّ شرقُ»، تقدّم محاسن ناصر الدين يوماً من حياة مجموعة من الأصدقاء في القدس المحتلّة، وصراعهم اليومي والكياني مع الاحتلال في مدينة تتحول إلى منفى لأهلها، حيث يبدو الجميع فيها «خارج المكان». يقدّم الشريط ذلك من خلال قصة أبو داوود قبل يوم من محاكمة ابنه داوود البالغ 15عاماً، أمام محكمة عسكرية إسرائيلية.
ينقل الشريط تداعيات محاكمة الابن على أبو داوود (الشخصية الشعبية الظريفة وصاحب مكتب التاكسي الذي يبدو بلا زبائن) ومحاولات بعض أصدقائه مواساته من خلال أحاديث وكلام مكرّر كالذي يمكن أن يتبادله الناس تحت الاحتلال من باب «فش الخلق» أو الفضفضة السياسية. قصة الفيلم ـــــ كما تقول صاحبته ـــــ هي مجرد محاولة منها ومن أصدقائها لمواساة أبو داوود في محنة محاكمة ابنه بتهمة الانتماء إلى تنظيم الجبهة الشعبية.. هكذا، خرجوا بفكرة «في الهمّ شرقُ» لمواساة أبو داوود، وأيضاً كطريقة خاصة في مواجهة عنف الاحتلال وحالة العجز الفلسطيني أو عدم الكفاءة الجماعي في المقابل.
أما خلف هذه القصة، فنرى واقع المدينة المحتلة، حيث بقايا أهلها العرب يحاولون التماسك أمام ماكينة الأسرلة المتوحشة. مع بداية الشريط، وعلى خلفية موسيقى تقترب من الروك وغناء بالإنكليزية (الاغتراب؟) عن حالة ضجر وانتظار، تستعرض الكاميرا مشاهد صباحية من شارع صلاح الدين. بائعات الخضار. مقطع من سور القدس. «سينما الحمرا» المغلقة منذ الانتفاضة الأولى. عمارة نسيبة الضخمة غير المكتملة والمهجورة منذ الاحتلال الثاني.
كل واحد من الشخصيات يظهر باسمه الحقيقي ودوره الذي يؤديه في الواقع، درويش (موسيقي الروك) ووليد (الصديق المشترك للمجموعة) وعاهد (الذي يحاول أن يكون فناناً) وأبو داوود (الأب القلق والمواطن المغلوب الذي يتجرع مفارقات القهر بسخرية ومقاومة خفية مرحة) وأبو عبد الله (المعالج الروحاني أو المشعوذ الذي يعالج مرضاه عبر الهاتف الخلوي، مستغلاً حالة النكوص والبؤس الاجتماعي) جميعهم يمثلّون أدوارهم نفسها أمام الكاميرا. لكن القصدية التي في التمثيل والسيناريو تُخرج العمل من دائرة الفيلم التسجيلي.
على مستوى آخر، يبدو الشريط سيرة يوم من حياة شارع «صلاح الدين»، الشارع الذي يحمل اسم محرر القدس من «الفرنجة» قبل 800 سنة؛ ويبدو اليوم شاهداً على تراجع المدينة العربية أمام «مدينة» إسرائيلية تطرد الأولى وتعامل أهلها العرب بوصفهم غرباء.
ورغم المباشرة والرسائل السياسية التي ينقلها الحوار بين الشخصيات، نجح الفيلم في تجنّب الكثير من الكليشيهات المتعلقة بالقدس ولغة التقارير الإخبارية التي تقع فيها «الأفلام» الفلسطينية التي تتعامل مع المدينة العربية المحتلة.
يقدّم «في الهمّ شرق» صورة جانبية لقدس 2007 والاحتلال يكاد يجهز عليها. حياة شبه ميتة تجاهد لتتنفس، وأيام تكرر نفسها في انتظار يائس. ينتهي الشريط بانقضاء النهار وانفضاض المجموعة، وأبو داوود يعرج في الشارع المظلم، بين محكمة عسكرية مضاءة و«سينما الحمرا» المطفأة.. في آخر شارع صلاح الدين.