نوال العلي
ها نحن نكتشف فداء عيتاني أديباً، مع قرّاء «الأخبار»، في اللحظة نفسها. في باكورته، يستعيد زميلنا زمناً يضجّ بالحكايات والمشاغل السياسية والأوهام. «عن حياة لا تغادرنا» محاولة تحرّر من ذلك الماضي المشترك بين بطل الرواية وكاتبها


لا يكتفي فداء عيتاني بالعنوان الرئيسي «عن حياة لا تغادرنا» لباكورته الروائية الصادرة أخيراً عن «دار الفارابي»... بل يضيف آخر فرعياً: «المسائل الشخصيّة للهارب والجدّ وحفيدته». وهذا العنوان الفردي ستتكشّف ضرورته خلال القراءة من ناحيتين على الأقل.
من جهة، نفهم تدريجاً أنّنا أمام عمل يمتد زمنيّاً ليتحدّث عن حيوات حقيقية ومتخيّلة، لشخصيّات مختلفة في العمر والتفاصيل والانطباعات والاتجاهات. إلّا أنّ ثمة حلقة واحدة تجمعها وهي الانتماء إلى المكان نفسه والعائلة ذاتها. هذه الشخصيات ـــــ وإن اختلفت أدوارها وزمانها ـــــ ما زالت تخوض المسائل الشخصيّة ذاتها. أمّا الناحية الثانية، فتتّضح في عبارة تأتي على لسان صديق عماد، وهو يحاول أن يسرد قصصاً عن حياة هذا الأخير للوالد الذي يكتشف أنّه كان يجهل حياة ابنه تماماً، فإذا به يتعرّف إليها من خلال أصدقائه، بعدما هرب عماد تاركاً ابنته جويس في عهدة والده ليربّيها ويعتني بها وقد ناهز الثمانين.
يقول صديق عماد للوالد أحمد: «كان يجب أن يتحدّث عماد عن مسائله الشخصية، إن أراد الاندماج مجدداً في الحياة الواقعية. كان شارداً وسعيداً بشروده الدائم، سعيداً باستعادة الماضي لكلّ هذه الأعوام. يردّده في ذاكرته كأنّه الحاضر».
هل كانت هذه الرواية، وهذه الكتابة المحمومة والملأى بالدم والقتلى والمنتحرين والأهل والأصدقاء، هذه الرواية عن تغيّرهم وابتعادهم وعودتهم وفقدانهم... هل كانت حديثاً عن تلك المسائل الشخصية من أجل الاندماج مرةً أخرى في سياق الحياة، وإكمال ما بقي منها بالحد الأدنى من العافية النفسية؟
هذا بالفعل ما يحدث في الرواية. إذ يستعيد عماد مسائله الشخصية وماضيه المهشّم، تماماً كقطع مزهرية من خزف، في محاولة لتجميعها: علّ الصورة تتضح ويصبح لها معنى. بعد محاولتَي انتحار فاشلتين، بات واضحاً أنّ هذه الحياة الماضوية لم تعد ذات قيمة. إذ إنّ الماضي لا يتيح للحاضر أن يتمدّد وتظهر تفاصيله، ولم يعد منصفاً لعماد نقل هذه الذاكرة الثقيلة من يوم إلى آخر، بالنسبة إلى شخص فقد توازناته كلّها.
من خلال مونولوغ داخلي يتحدث فيه عماد عيتاني بلسان الجميع وعن الجميع، ينطق بلسان والده أحمد، ويتحدّث أيضاً عن ذاكرة مستقبلية لابنته... ومنذ العبارة الأولى في الرواية، يوضع القارئ في أجواء الهذيان واختلاط الواقع بتفاصيل الحلم والغياب عن الوعي. يبدأ عيتاني (دائماً بطل الرواية لا الكاتب الذي أعاره اسم عائلته) بـ «أطلق اللاوعي كل أحلامه، غيّر كل واقعي، محا كل ذاكرتي، رسم واقعاً آخر وتفاصيل جديدة عن كل شيء». ولا شك في أن هذا العمل ـــ الضخم نسبيّاً ـــ يستمدّ قوّته من ذاكرة عماد الذي حاول الانتحار، متناولاً السم والحبوب المهدّئة، ليدخل في غيبوبة، ويتم إنقاذه في المستشفى الذي سيموت فيه والده أحمد عيتاني بعد فترة.
والرواية بمجملها سرد لتفاصيل استعادة عماد لوعيه وذاكرته وذاته، واستيعاب حقيقة فشله في الموت. وهو أثناء ذلك، يتحدث عن حياة حارة، إنما مشظّاة أيضاً، عن كل ما عاشه كاشتراكي حزبي في الحرب الأهلية، وتدرّبه في معسكرات مع رفاقه في البقاع، ثم تفاصيل بيروت خلال الاجتياح الإسرائيلي، حتى انهارت أحلامه كلّها وكل ما عرفه عن نفسه وآمن به. هو الصحافي الذي كان موكلاً بتغطية الحرب وشهد الكثير من المجازر الوحشية التي لم يتعافَ منها قط.
تسير الرواية في خطّين متوازيين. بينما يحاول الوالد أحمد كتابة سيرة ابنه عماد لحفيدته، تواصل الرواية ذاتها خطّها الأصلي. هكذا، نكتشف عماد وشخصيته وحياته، من خلال كتابة والده، وحديثه إلى أصدقاء عماد ليتعرف إلى حياة ولده وانخراطه في الحرب. يتحرك السرد كذلك مع الابن عماد من خلال ذاكرة أخرى، من نوع خاص، تتنقّل بين الأصحاب وقصص الحب، وانفصاله عن حبيبته زينب من دون سبب حقيقي، وزواجه بكلود المرأة المعتوهة بتصرفاتها وادعاءاتها وزيفها الاجتماعي، وأصدقائه الذين فقدهم في الحرب، ومقتل رفيقه أمامه وصوت طلقات الجنود الإسرائيليين وهي تخترق جثته الهامدة أمام عينيه: «طخ عليه، يصرخ ضابط إسرائيلي بلكنة فلسطينية على مجنّد من جيش لبنان الجنوبي، ويطلق المجنّد النار على الجثة. يراقب عماد من منظاره المجند وهو يرمس الجثة بالنار... بعد ذلك وفي جبال الباروك سيستغرب كيف لم يفكر في طبيعة هؤلاء الأعداء، أعبرانيون هم أم عرب أم يهود؟ كيف يتجانسون مع اختلافاتهم وكيف يتشكّلون في دولة».
ليست حرباً واحدة تلك التي يتحدّث عنها عماد، بل هي سلسلة من الحروب تمتد من بيروت السبعينيات من القر ن المنصرم حتى بغداد عام 2003. تلك الحروب التي دمغت الحياة اليومية، وانسحبت عليها، لتصبح العلاقة مع الذات أولاً، ومع المحيط ـــــ بدءاً بالزوجة وانتهاءً بالجميع ـــــ أشبه بحرب نفسيّة جانبية ترافق كل الفوضى التي تعمّ لبنان. حروب كثيرة جعلت من هذا الابن هارباً وفاقداً صلاته بالواقع المبهم الآن، إذ بات من المفهوم أنّ كل ما فعله هو ورفاقه لم يعد له قيمة.
يأتي خطاب الشخصية عن ذاتها بأكثر من شكل: مرة بصيغة المتكلم، ومرة بصيغة الغائب، ومرة يتم الحديث عن وعي عماد الشخصي، ومرة عن وعيه الجماعي. كما أنّ الرواية عمل طويل مكتوب بلغة مندفعة، كان يمكن اختزالها، كأن النصّ أُنجز دفعة واحدة، وكتب على نفَس واحد... أو كأنّه محاولة «خلاص»، تُرك كما هو، من دون تشذيب، ليظل حقيقياً وعفوياً، مانحاً صاحبه فرصة الإفلات من خناق المسائل الشخصية القديمة ذاتها.