strong>عثمان تزغارت
قبل أن يصل إلى القاعات الأوروبية، حيث يُعرض حالياً بنجاح، حقّق فيلم «زيارة الفرقة الموسيقية» أو «العرض الأخير» (وهو العنوان العربي للفيلم)، للإسرائيلي عيران كوليرن حفاوة نقدية لافتة، إثر عرضه في مهرجان «كان» الأخير وحاز جائزة تظاهرة «نظرة ما». لكن ذلك لم يحصّنه من الهجمات والانتقادات، إذ طاوله الجدل في إسرائيل، على غرار أعمال «السينمائيين الجدد» المعادين للخطاب الرسمي للدولة العبرية. كما يتعامل معه النقاد العرب، والمهرجانات العربيّة بحذر، لكونه في النهاية تعبير عن الخطاب (والوعي) الإسرائيلي، ولو من موقع نقدي. لكننا في هذه العجالة نركّز على العلاقة الصداميّة بين الفيلم والمجتمع الإسرائيلي.
مارست المؤسسات الثقافية الإسرائيلية ضغوطاً علنية لمنع ترشيح «زيارة الفرقة» للأوسكار، بحجة أنّه فيلم لا ينطق بلغة بلاده، بل بالإنكليزية. وقد استجابت الأكاديمية الهوليوودية لتلك الضغوط، رغم أنّ اللغة كانت حجة واهية. فكل مَن شاهد الفيلم يدرك أنّه غير ناطق بالإنكليزية. فالشخصيات اليهودية فيه تتحدث في ما بينها بالعبرية، والشخصيات العربية يخاطب بعضها بعضاً بالعربية. أمّا حين يدور الحديث بين شخصية عربية وأخرى يهودية، فيتم اللجوء إلى إنكليزية ضحلة مطعّمة بخلطة فاقعة ومضحكة من التعابير واللكنات العربية والعبرية. وهو ما منح الفيلم نكهة خاصة مثّلت إحدى الركائز الأساسية التي قامت عليها عوالمه العبثية والسريالية...
ولم ينجُ فيلم «زيارة الفرقة» من هجمات الإستبلشمنت الثقافي الإسرائيلي، رغم أنّه ليس فيلماً سياسياً على شاكلة أعمال عمّوس غيتاي، ولا يحمل نبرة نضالية يسارية، كما هي حال أعمال إيال سيفان أو آفي مغرابي. إنه فيلم يغرف من عوالم بيكيت العبثية (أحد أعضاء الشلة الإسرائيلية يمضي وقته مرابضاً أمام كابينة الهاتف العمومي، مترقّباً مكالمة من حبيية وهمية)، ومن الروح الكافكاوية القاتمة (الرجل الثاني في الفرقة الموسيقية المصرية، يقضي 20 سنة في تأليف مقطوعة سيمفونية، يأمل أن يعزفها عندما سيصبح الرجل الأول في الفرقة. وحين يتاح له ذلك، خلال رحلة الفرقة إلى إسرائيل، يفاجأ بأنه لم يعد يتقن العزف لأنّه حُرم ذلك طيلة كل تلك السنين).
أمّا على صعيد اللغة السينمائية، فالفيلم يحمل بوضوح بصمات سينما الأخوين كوين، وخاصة لجهة الانطلاق من قصة أصليّة بسيطة سرعان ما تتولّد عنها تعقيدات وتشعّبات بلا نهاية، في أجواء من الفكاهة السوداء الغرائبية التي تتقلّب باستمرار بين المقالب الكوميدية الفاقعة والمفارقات السريالية الساخرة.
ينطلق فيلم «رحلة الفرقة» من قصة زيارة تقوم بها فرقة عزف عسكرية إسكندرانية إلى إسرائيل، لتقديم عرض موسيقي في مركز ثقافي عربي. لكنها تضلّ الطريق، وتتوه في صحراء النقب، بسبب إشكال لغوي ناجم عن صعوبة في نطق حرف الـP. فالفرقة كانت في الأصل ذاهبة للغناء في المركز الثقافي العربي ببلدة Pethakiva، لكن عندما يستفسر رئيس الفرقة عن الطريق بعد وصولهم مطار اللّد، ينطق الـP على شكل B. ما يسبب سوء فهم سيقود الفرقة إلى بلدة أخرى بعيدة في صحراء النقب هي Beit Hakeeva!
من خلال رحلة توهان الفرقة المصرية في الصحراء، يسلّط الفيلم الضوء على الخواء الثقافي الإسرائيلي المطبق على سكان تلك البلدات التي زُرعت في صحراء النقب، ونسيتُ هناك منذ ستين سنة، بعيداً عن حداثة المدن الإسرائيلية الكبرى وازدهارها الاقتصادي والثقافي. حين تقف الفرقة أمام المطعم الصغير الذي تديره شلة من ثلاثة أصدقاء إسرائيليين، وتسأل عن المركز الثقافي العربي، تتهاطل عليها الأجوبة تباعاً وتتقاطع مثل قطع الـPuzzle، لترسم صورة المشهد الثقافي والاجتماعي للبلدة: «لا شيء عربياً هنا»، يجيب النادل. «لا مركز ثقافياً... بل لا شيء ثقافياً هنا»، توضحّ مديرة المطعم. «باختصار، هنا جهنّم» يضيف مساعدها الشاب العشريني الذي يقضي معظم وقته صامتاً محدّقاً إلى الفراغ!
من دون أي إطناب خطابي، يضع الفيلم شخوصه بعضها قبالة بعض، ويجعلها تكتشف الآخر الذي لم تكن تنظر إليه إلا بوصفه عدواً. وإذا بكل طرف يندهش من إنسانية الآخر، ويكتشف أنّه كائن مسحوق مثله يعاني نفس التسلط والبيروقراطية والتهميش، ويواجه ضغوط العقليات الشرقية ذاتها!
يُحسب لهذا الفيلم أيضاً ـــــ وهذه ظاهرة جديدة في سينما الموجة الجديدة الإسرائيلية، خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة ـــــ أنّه لم يعد يصوّر الآخر العربي في شكل نمطي، بوصفه إمّا إرهابياً متطرفاً أو ضحية مسالماً، بل يعتمد مقاربة أكثر واقعية تبرز إنسانية الآخر، بكل ما تحمله من إيجابيّات وسلبيّات. من خلال هذه الفرقة الإسكندرانية، يقدّم الفيلم، دون أي خطابية، نظرةً تشريحيةً ثاقبة للواقع الاجتماعي والسياسي المصري، وما يعانيه من تسلّط سياسي، ومن تمزّق ثقافي واجتماعي بين حداثة مستعصية وأصالة إشكالية.