حسين بن حمزة
المستشرق البريطاني آرثر آربري كان أول من نشر «المواقف والمخاطبات» في ثلاثينات القرن الماضي. واليوم يجمع قاسم محمد عباس تراث النفري في «الأعمال الكاملة»، من دون مبادرة نقدية تعيد فتح النقاش حول القيمة الشعرية والفكريّة لشيخ المتصوّفة

قال النفري في واحد من مواقفه «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة». لم يكن الرجل يعرف أنّ هذه الجملة ستحقّق صيتاً واسعاً، وأن استعمالها سيتكرر إلى حد أنّ النفري كله سيقيم في أحشائها. لهذا، فإن القارئ لن يستغرب أن يختار قاسم محمد عباس النصف الثاني من الجملة عنواناً لكتاب «الأعمال الكاملة للنفري» (دار المدى ــــ بغداد/ دمشق).
كان المستشرق البريطاني آرثر آربري أول من اكتشف «مواقف» النفري و«مخاطبات»(ـه) ونشرهما عام 1935. وكان يمكن أن تظل نصوص النفري طيّ تلك الطبعة المنسية، لولا أنّ أدونيس أعاد اكتشافها في الستينيات، ودفعها إلى واجهة السجال الدائر حول الحداثة الشعرية. ثم تطور ذلك إلى حد طرح اسم النفري كأب مفترض لقصيدة النثر العربية التي كانت متهمة (ولا تزال من جانب بعضهم)، بأنّها صنيعة الغرب، ومن نتاج الترجمة على وجه الخصوص.
لم يغب النفري منذ ذلك الحين عن المشهد الثقافي والشعري العام. صدرت «المواقف والمخاطبات» أكثر من مرة على يد محققين مختلفين. وكان آخرها ما جمعه الباحث العراقي سعيد الغانمي من نصوص معروفة ومجهولة للنفري صدرت في بداية العام الحالي بعنوان «الأعمال الصوفية». واحتوى الكتاب، لأول مرة، على ترجمة المقدمة الهامة التي كان آربري قد قدم بها النفري.
ينطلق المحقق قاسم عباس من فكرة جمع كل الأعمال المتوافرة للنفري، وإعادة فحص نصوصه وضبطها لغوياً ونحوياً، مركّزاً على طبعة آربري وحدها في اعتبار أنّ الإصدارات اللاحقة كلّها تقيّدت بها حرفياً. ويخلص إلى أنّ آربري أسقط الكثير من الفقرات من النص الأصلي من دون مبرر، فضلاً عن عدد من القراءات التي وضعها في الهامش وتستحق أن تكون في المتن. ويرى المحقق أنّ ظهور «مواقف ومخاطبات» جديدة لاحقاً، لا يعني أنّها منفصلة عن المواقف والمخاطبات الأولى. وعلى رغم تأويله هذا، ارتأى أن يُبقي الجديدة منها على حدة، بسبب صعوبة تحديد مواضعها الحقيقية داخل القديمة.
بجمعه أعمال النفري في كتاب واحد، يوفّر المحقق الفرصة للقراء والباحثين للاطلاع على عالم النفري برمته، إذ غالباً ما صدرت «المواقف والمخاطبات» مجتزأة عن مجمل نتاج النفري، واعتبرت حجر الأساس في تركته الصوفية. ورغم أنّ هذا الاعتبار لا يخلو من وجاهة، إلا أن تجاورهما مع نصوص النفري الأخرى، يعطي صورةً متكاملةً وضروريةً لتجربة هذا المتصوّف الغريب والمتفرد.
لعل الاهتمام الذي يلقاه النفري منذ عقود، يوازي الإهمال الذي تعرض له طوال قرون. ويعزو العديد من الباحثين والمؤرخين ذلك إلى الطابع الغامض والمستغلق لنصوصه الصوفية نفسها. لم يكن النفري صوفياً عادياً إلى حد أنّ اسمه لا يحضر إلى جانب غيره من المتصوفة، في المصنفات الصوفية الكبرى. كما أنّ المعلومات التي ذكرتها بعض المصادر بشأن حياته شحيحة، ولا تكفي لرسم صورة واضحة المعالم له. ويرى كثيرون أنّه لولا إشارات لابن عربي في «الفتوحات المكية» و«رسالة عين الأعيان»، لما تأكد اللاحقون من نسب «المواقف والمخاطبات» إلى النفري.
الأعمال الكاملة كما يوردها المحقق في الكتاب هي: «من خصائص كلامه الغريب في المحبة»، «الشذرات»، «المواقف» و«المواقف الجديدة»، «المخاطبات» و«المخاطبات الجديدة» وأخيراً «الديوان». وبحسب العنوان الفرعي لهذا الكتاب (الأعمال الكاملة للنفري)، يخيّل للقارئ أنّ النفري شاعر حديث أصدر عدداً من الدواوين والمجموعات الشعرية، وها هو يصدر أعماله الكاملة أسوة بغيره من الشعراء الذين يفعلون ذلك بعد رسوخ تجاربهم. القارئ الذي يعرف تراث النفري لن يأخذ هذا الإيحاء على محمل الطرافة فقط، إذ كثيراً ما اعتُبرت نصوص النفري، وخاصة مؤلَّفه الأشهر «المواقف» شعراً أو نوعاً مبكراً وفريداً من الشعر. حتى إن أدونيس تبنّى فكرة أن يكون النفري السلف الشرعي لقصيدة النثر العربية. ثم راج استخدامه رأس حربة في مواجهة المشككين في شعرية قصيدة النثر وأصلها «غير العربي». والمعروف أن أدونيس ذهب أبعد من ذلك، فبحث في دراسة مشوّقة ومبتكرة عن التشابه الممكن بين «الصوفية والسريالية» بحسب ما عنون كتاباً له.
اللافت، والمثير للاستغراب في آن، أنّ الأشعار التي يتضمنها «الديوان» لا تصل إلى المستوى الإعجازي الذي كُتبت به المواقف والمخاطبات، ولا يمكن مقارنتها حتى بالأشعار التي نظمها متصوفة آخرون. ولعل هذا يثير سؤالاً تقليدياً عن إشكالية الكتابة بالوزن، والتضييق الذي تمارسه التفعيلات والقوافي على حرية المعنى وتماوجه داخل أي نص شعري. بهذا المعنى، سيُفضّل القارئ النفري الناثر على النفري الشاعر، فهو أكثر شعرية في نثره بما لا يُقاس. ولعل هذا ما دفع عدداً من الشعراء والنقاد الحديثين إلى اعتبار النفري شاعر قصيدة نثر بالمعنى الراهن للمصطلح.
يكتفي محقّق الكتاب بجمع أعمال النفري والتدقيق في مصادرها، وتصويب الأخطاء اللغوية والنحوية، واستدراك مواضع الخلل والنقص فيها. وهو الجهد الذي يبذله المحققون عادةً إزاء أيّ مصنّف تراثي قديم. وهذا يعني أنّ القارئ لن يجد بحثاً مستجداً أو مبادرة نقدية جريئة من النوع الذي يعيد فتح النقاش حول القيمة الشعرية والصوفية للنفري.
الكتاب، بهذا المعنى، جهد توثيقي يمكن أن يستفيد منه الدارسون أو الأكاديميون. أمّا القارئ المطلع على السياق الذي وُضع فيه النفري في واجهة الكلام المستمر على الحداثة والشعر، فلن يعثر في الكتاب على ما يضيفه إلى معرفته السابقة.