عدي الموسوي
نسف المنازل الفلسطينيّة والتنكيل بأهلها وإبادتهم، تقليد إسرائيلي قديم... إنّه أحد وجوه التطهير العرقي مثلما مارسته الحركة الصهيونيّة ابّان النكبة. هذا ما يكشفه إيلان بابه أحد أبرز المؤرخين الجدد، استناداً الى أرشيف عصابات الـ «هاغانا» الذي رفعت سرّيته أخيراً.اقتل عربياً تفز بشبر إضافيّ من أرض الميعاد!

في جامعة تلّ أبيب مبنى عتيق يدعى «البيت الأخضر» حيث تذكر قائمة الطعام أنّ تاريخه يعود إلى القرن التاسع عشر، وأنّ مالكه كان يدعى الشيخ مونيس... فقط. هكذا، يبدو تاريخ المبنى بلا ملامح، لمَ لا؟ فهو كان ملكاً لمختار قرية الشيخ مؤنس التي تعرّض سكّانها للتطهير العرقي وبنيت عليها لاحقاً جامعة تل أبيب.
«البيت الأخضر» هو صورة مصغّرة لإنكار الصهيونية المنهجي لعملية التطهير العرقي التي شهدتها مئات القرى الفلسطينيّة منذ أواخر عام 1947، يوم كانت الأنظمة العربية جزعة ومترددة، تلهب الأجواء بصرير أقلام الخطب الحماسية لا بأزيز رصاص البنادق.
في كتابه الجديد «التطهير العرقي في فلسطين» الذي عرّبه أحمد خليفة أخيراً (مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـــــ بيروت)، يروي الأكاديمي اليهودي إيلان بابه حقائق عن التطهير العرقي مثلما مارسته طلائع الصهيونيّة في فلسطين إبّان نكبة 1948، مركّزاً على خطّة «د» (دالِت بالعبرية) التي كانت هدفاً من أهداف الوحدات العسكرية الصهيونية بقيادة ديفيد بن غوريون. وهذا الأخير يُطلق عليه بابه اسم «مهندس التطهير العرقي».
الكتاب هو أحدث نتاجات حركة المؤرّخين الإسرائيليين الجدد التي نشطت منذ ثمانينيات القرن الماضي، لتخفت تدريجاً بعد تراجع بعض أصحابها عن مواقفهم، فيما واصل بعضهم الآخر مشروعه النقدي للتاريخ الرسمي لإسرائيل، ومن الفئة الثانية البروفيسور بابه. ولا أدلّ على تراجع حركة المؤرّخين الجدد، أو تطويقها، من أنّ كتاب بابه «التطهير العرقي في فلسطين»، طُبع في نسخته الأصليّة باللغة الإنكليزيّة لا العبريّة. والمعروف مثلاً أنّ المؤرّخ بيني موريس ـــــ أحد أبرز أركان تلك المدرسة ـــــ تراجع عن معظم مقولاته، ووجد تبريرات لما بقي منها. لذا نفهم لماذا يخيّم ظلّه على صفحات الكتاب، خصماً أكاديمياً يسعى إيلان بابه إلى نقض آرائه، خصوصاً تلك التي بررت جرائم الصهاينة خلال عام 1948 وما قبله وبعده.
تتجسّد أهمية هذا الكتاب ـــــ إضافة إلى مهنية المؤلف وطول باعه في البحث و(النبش) التاريخي وحشده مئات المصادر والمراجع والوثائق ـــــ في أنّه يستند إلى أرشيف ميليشيا الهاغانا. هذا الأرشيف الذي رفعت عنه السرّية أخيراً، وانطلاقاً منه يبني المؤلف بنية الكتاب الأساسية. هكذا، نكتشف أنّ الهاغانا لم تكن ميليشيا (كما أُرغمنا على تصديق ذلك لعشرات السنين) بل جيشاً منظّماً، شارك نصف أفراده في الحرب العالمية الثانية إلى جانب القوات البريطانيّة، وأنّ عديده في الأحوال العادية كان يبلغ خمسين ألف عنصر. فيما ازداد خلال حرب فلسطين إلى أكثر من 80 ألفاً فيما لم يزد عديد الجيوش العربية مجتمعةً على خمسين ألفاً، مع فارق شاسع في الإمكانات لمصلحة الصهاينة. هكذا، يسخر المؤلف من إحدى الأساطير الصهيونية عن تأسيس إسرائيل يوم واجه داوود الصهيوني جالوت العربي، وهي ليست الأسطورة الوحيدة التي سيسعى إلى تقويضها: هناك أيضاًً أسطورة نزوح العرب الطوعي عن قراهم! يبيّن بابه بالأدلّة والوثائق أنّ إخلاء مئات القرى العربية كان حاجة استراتيجيّة للكيان الإسرائيلي المنبعث من قرار تقسيم فلسطين عام 1947.
لقد أدرك باكراً دايفيد بن غوريو، زعيم الحركة الصهيونية من عام 1920 حتى الستينيات، أنّ دولته العتيدة ستواجه مأزقاً مستقبلياً يتمثّل في نسبة الوجود اليهودي إلى الوجود العربي (500 ألف يهودي مقابل 440 ألف عربي) في دولة يفترض أن تكون يهودية ديموغرافياً. هذا فضلاً عن أنّ الوكالة اليهودية ـــــ رغم إمكاناتها الهائلة وتواطؤ الانتداب البريطاني معها ـــــ لم تكن حينها تملك أكثر من 6 في المئة من أراضي الدولة المفترضة. لذا، بدأ البحث عن أساليب استفزاز العرب ودفعهم إلى القيام بأعمال «عدائية» تجاه المستوطنين اليهود ذريعةً لمخطّط التطهير. وبينما كانت الخطط تعدُّ وتناقش لهذا الغرض، ستتم العودة إلى الأرشيف الضخم الذي أعدّه الصندوق القومي اليهودي أواخر الثلاثينيات والذي يحصي بدقة مذهلة جميع القرى العربية سكّاناً وعائلات ومحاصيل، وصولاً إلى طرق الوصول إليها و«مهاجمتها» مع إحصاء للناشطين السياسيين والثوريين فيها.
هذا الأرشيف ستلجأ إليه القيادتان السياسيّة والعسكرية للحركة الصهيونيّة في تنفيذ أبشع وأوسع عملية تطهير عرقي في العصر الحديث. وستمرّ العملية في مراحل عدّة بدءاً من محاولة استفزاز الفلسطينيين، لكن من دون جدوى. إذ إنّ ردود الفعل المستكينة تجاه العمليات العدوانية الأولى في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 ستحبط القيادة الصهيونية وتشجّعها على القيام بعمليات أوسع وأشد قساوةً، خصوصاً مع أزمة قيادات الداخل التي كانت تعاني منها فلسطين.
هكذا، يقرُّ أسلوب «الدفاع العدائي» الذي يتلخّص في إجلاء أكبر عدد ممكن من العرب من خلال مهاجمة قراهم وطردهم وتصفية من يقاوم ومن عرف منهم بنشاطه المعادي للصهاينة، ومن ثم نسف المنازل وتلغيمها لمنع العودة إليها. هذا الأسلوب سيراجع باستمرار، ويتبلور لاحقاً تحت اسم الخطة «دالِت» في شهر آذار (مارس) 1948، بعدما كان التطهير العرقي حتّى حينه قد حقق نتائج متقدّمة: طرد أكثر من 75 ألف فلسطيني.
على امتداد أغلب فصول الكتاب، سنكون مع مراحل هذا التطهير الذي ستكون حصيلته مع نهاية شهر نيسان (أبريل) من 1948 إجلاء أكثر من 250 ألف فلسطيني، وإخلاء أكثر من 531 قرية وعدد من الضواحي والأحياء السكنيّة وتدميرها. وسيغوص المؤلف في تفاصيل التطهير وقصصه، سهولته على منفّذيه حيناً، وصعوبته حيناً وهو يصطدم بتصديات على رغم ارتجاليتها ستبدو لنا أسطوريّة بحسب ميزان القوى المنحاز لمصلحة الصهاينة وحيث كانت القيادات الصهيونية تُصدر أوامرها بـ«اقتل كل عربي تلقاه»!
في خضمّ هذا الضجيج، لم يُغفل الكاتب التتبّع الشغوف لمفردات حيوات أزهرت يوماً في تلك القرى، ومآلاتها الحزينة التي لن تقف عند حدود التدمير ومحاولة طمس معالمها من الذاكرة التاريخية بل البيئيّة أيضاً. فحتّى الزيتون المعمر سيُقتلع وتُزرع مكانه أحراج أوروبية هجينة. هكذا، سنتعرف إلى أخوات دير ياسين التي لا تعد ولا تحصى، وآثارها الباقية التي ـــــ وإن قلّت ـــــ فإنّها ما زالت حتى اليوم متناثرة في ربوع فلسطين. يكفي لشخص أن يمتلك الفضول والدراية التاريخية حتى يكتشفها لكن من دون ضجيج. إذ بمجرد أن يشعر به موظّفو الصندوق القومي اليهودي، فإنّهم سيسارعون إلى استجلاب التمويل اللازم لاقتلاع هذه البقايا أو تلفيق تاريخ تلمودي لها، في فصل آخر من فصول التطهير العرقي المستمر منذ عام 1948. وبين تلك القرى نذكر المجيدل التي جرت محاولة إخفاء معالمها، لكنّ أرضها رفضت تلك الغابات المزيّفة، فأصيبت أشجارها بالأمراض، فيما روى زوارها أن بعض أشجار الصنوبر انشقّت نصفين لتبرز وسطها بتحدٍّ براعم أشجار الزيتون العتيقة!