بيار أبي صعب
أسدل الستار أول من أمس على الدورة الرابعة من الموعد السينمائي الخليجي الذي احتلّ بسرعة موقعه بين مهرجانات السينما في العالم العربي.طوال أسبوع، احتضنت المدينة الإماراتيّة الباحثة عن نفسها فوق الخريطة الثقافيّة، عشرات الأفلام العربيّة والعالميّة، واحتفت بنجومها، ومضت في سعيها لبناء «جسور التواصل بين الثقافات»

ما من شيء عادي في دبي. كل شيء خارق في هذه المدينة المعولمة التي نبتت على غفلة عند تخوم الصحراء... لا تجد وقتاً لتسأل أين أنت؟ أو لتحاول أن تفهم ماذا تفعل هنا؟ تدخل من دون استئذان في الدوامة المجنونة، تنتبه فجأة أنك وقعت في الفخ، صرت جزءاً من اللعبة، تكدح مثل الآخرين (ولو في لجنة تحكيم دوليّة)، تتسابق مع الزمن، تركض وراء سراب الترف التكنولوجي والرخاء الاستهلاكي...
كل مظاهر التطوّر (التقني) متوافرة هنا، والضخامة هي القاعدة: أضخم فندق في العالم، أضخم مركز تجاري في الشرق الأوسط، وأضخم آلة اقتصاديّة طاحنة تضخّ نموّاً مذهلاً في سرعته التصاعديّة. وكان لا بدّ من أن يأتي دور الثقافة والفنّ. خلال الأعوام القليلة الماضية، صارت الإمارات بين أضخم أسواق الفنّ العالميّة، خصوصاً بالنسبة إلى الفنّ العربي بمختلف مدارسه واتجاهاته. ومنذ أربع سنوات، باتت دبي تملك مهرجانها السينمائي... الضخم طبعاً.
«مهرجان دبي السينمائي الدولي» الذي تنظمه سلطة منطقة دبي الحرة للتكنولوجيا والإعلام، انطلق عام ٢٠٠٤ تحت شعار «ملتقى الثقافات والإبداعات». بسرعة قياسية استقطب أكبر النجوم. تريد جورج كلوني؟ سيكون لك في افتتاح الدورة الرابعة التي أُسدل عليها الستار أول من أمس. قبل أسبوع وقف كلوني على منصّة «مسرح المدينة» ذي الإمكانات التقنية المبهرة في الجميرة، مقدّماً فيلم توني غيلروي «مايكل كلايتون» الذي يؤدي فيه دور البطولة. الفيلم هوليوودي نموذجي، يناغش قليلاً تجاوزات الرأسماليّة، قبل أن يترك للخير أن ينتصر على الشرّ.
قبل عرضه، تكلّم النجم الوسيم عن أخطاء أميركا، داعياً الى العمل على مدّ جسور حقيقية مع هذه المنطقة من العالم. تريدون باولو كويلو؟ إنّه لكم، في مؤتمر مواز للمهرجان («ملتقى الثقافات والإبداع» بين المشاركين الاعلامية اللبنانية جيزيل
خوري).
بين الكاتب البرازيلي وبرج العرب صداقة قديمة. شارون ستون أيضاً مشت على السجادة الحمراء في دبي، حيث رأست حفلة خيريّة لدعم الأبحاث حول الايدز. ليلى علوي، وفاروق الفيشاوي ومحمود ياسين. والقائمة تطول.
لكنّ الجانب الاستعراضي الذي لا مفرّ منه في نوع معيّن من مهرجانات السينما، لم يأت على حساب المكانة الحقيقيّة والأمينة المخصصة في دبي للسينما العربيّة بكلّ اتجاهاتها وأجيالها وامتداداتها الجغرافيّة، وبكل أشكالها الروائيّة والوثائقيّة، الطويلة والقصيرة... وجاءت «جوائز المهر» لتتوّج بعض تلك الأفلام، ضمن فئتين منفصلتين: الروائي والوثائقي (مدير المسابقة الزميل محمد رضا).
وقد مثّل الموعد فرصة ثمينة لاكتشاف بعض أهمّ التجارب الإبداعيّة الآتية من المغرب والمشرق، وأحدث ما أنتج عن المنطقة وقضاياها في العالم العربي والولايات المتحدة وأوروبا.
البرمجة العربيّة لهذه الدورة، تعكس هاجساً حقيقياً لنقل صورة أمينة عن واقع سينمائي في حالة مخاض دائم، وصراع سيزيفي من أجل الوجود. من هنا الحضور الكثيف لأعمال ومبدعين، في مواقع مكرّسة أو طليعيّة. من سوريا عمّار البيك (JERUSALEM HD، روائي قصير)، وميّار الرومي («ستّ قصص عاديّة»، روائي قصير)... وعبد اللطيف عبد الحميد («خارج التغطية»). ومن لبنان غسان سلهب (POSTHUME روائي قصير) ومحمود حجيج («آنسات، سيّدات، مواطنات»، روائي قصير)، ووسام شرف («جيش من النمل»، روائي قصير)، وشادي زين الدين في باكورته الروائيّة الطويلة «وعلى الأرض السماء» (مع رفيق علي أحمد، وعمّار شلق، وكارمن لبّس). وهذا القادم الجديد إلى عالم الإخراج (١٩٧٩)، سنسمع عنه الكثير لاحقاً من دون شكّ... وصولاً إلى برهان علويّة («خلص» ـــــ مهري أفضل سيناريو، وأفضل مونتاج)، ومي المصري («٣٣ يوماً»، وثائقي)، وفيليب عرقتنجي («تحت القصف» ـــــ المهر الذهبيّة لأفضل فيلم، ومهر أفضل ممثلة لندى أبو فرحات).
وقد أدهش الحضور اللبناني المكثّف على قائمة الجوائز معظم المشاركين في المهرجان.
كذلك حضرت فلسطين بكثافة في جوائز الأفلام الوثائقيّة مع نصري حجاج («ظل الغياب» ـــــ المهر البرونزيّة للأفلام الوثائقيّة)، وبثينة كنعان خوري («مغارة ماريا» عن جرائم الشرف ـــــ المهر الفضّية للأفلام الوثائقيّة). ولا ينبغي أن ننسى بروز سينما الإمارات، البلد المضيف، مع مبدعين أمثال وليد الشحي («حارسة الماء» ـــــ المهر الفضية للأفلام القصيرة)، عبد الله حسن أحمد («تنباك»، روائي قصير)، محمد سعيد حارب، ونايلة الخاجة وعلي مصطفى...
أبرز رموز السينما التونسيّة جاؤوا إلى دبي لتقديم أفلامهم. نوري بوزيد («آخر فيلم» ـــــ المهر الفضية لأفضل فيلم روائي طويل، مهر أفضل موسيقى)، ولطفي عاشور («العزّ» ـــــ المهر البرونزية للأفلام الروائيّة القصيرة) وأنور براهم («كلمات ما بعد الحرب»، وثائقي)، وهشام بن عمار («شفت النجوم في القايلة»، وثائقي: تاريخ تونس عبر رياضة البوكس)... أو لمجرّد المشاركة، مثل رضا الباهي وفريد بوغدير. طبعاً فيلم نوري بوزيد كعادته أثار السجال: كيف نصوّر الإسلاميين: بين شجاعة الفنّان العلماني العربي في مواجهة «الظلاميّة»... وتسرّع المثقّف الطليعي في تقديم نظرة «اختزاليّة» أحياناً إلى الجماعات الذي أخذها القهر ـــــ على أنواعه ـــــ إلى الخيار الراديكالي، الانتحاري؟
وأثار عدم فوز الممثل التونسي لطفي عبدلّي، بطل «آخر فيلم»، بجائزة المهر لأفضل ممثّل، خيبة النقاد وأهل المهنة، إذ فضلت لجنة التحكيم (وكاتب هذه السطور كان من أعضائها) الممثّل الأردني نديم صوالحة، بطل فيلم أيمن مطالقة «كابتن أبو رائد» الذي رُوّج له بصفته «أوّل فيلم أردني منذ ثلاثين سنة»! خيبة أخرى لمسناها لدى جمهور المهرجان، من عدم فوز الممثلة التونسيّة اللافتة حفصيّة الحرزي بطلة «أسرار الكسكس» فيلم الجزائري عبد اللطيف كشيش الذي يحكي معاناة المهاجرين العرب في فرنسا (جائزة المهر البرونزية لأفضل فيلم روائي طويل).
ونشير هنا الى فيلم جزائري لافت هو «البيت الأصفر» (عمر حكّار) الذي تعالت الاحتجاجات لعدم حصوله على إحدى الجوائز الكبرى
للمهرجان.
وتجدر الإشارة إلى أنّ العلاقة بالغرب، على اختلاف إشكالياتها من أوضاع المهاجرين والعنصريّة وإشكاليات «العودة» إلى الوطن الأم وإرث الاستعمار الثقيل، هي أحد المحاور الأساسيّة لأفلام مهرجان دبي. نذكر في هذا السياق، إضافة إلى «أسرار الكسكس»، شريط البلجيكية خديجة لوكلير «سارا» (جائزة المهر الذهبية للأفلام القصيرة: سارا تعود الى البلد للقاء أم لا تعرفها)، «امرأتان» (فيليب فوكون، فرنسا: مسلمة ويهوديّة في مهبّ العنصريّة المستجدّة)، و«أميركي شرقي» (هشام عيساوي، الولايات المتحدة: معاناة العرب الأميركيين بعد ١١ سبتمبر)، «أميركا ضدّ العريان» (لين هالفورسن، النروج: معاناة الدكتور سامي العريان، الأستاذ الجامعي الفلسطيني الذي اتهمته السلطات الأميركيّة بالإرهاب)، «أنا الآخر» (محسن ليتي، إيطاليا: صياد السمك الإيطالي يشكّ فجأة في كون صديقه وزميله وشريكه التونسي إرهابياً)، «العدوّ الحميم» (فلوران إميليو سيري، فرنسا: نظرة أخرى نقديّة إلى حرب الجزائر)... وصولاً إلى المغربيين نبيل عيّوش الذي يصالح العرب وأميركا بـ«هزّة ورك»، وأحمد المعنوني الذي يعود بطله الشاب من فرنسا إلى المغرب لرعاية خاله المحتضر...
وأحمد المعنوني صفّق الجمهور طويلاً لفيلمه «القلوب المحترقة» (مهر أفضل تصوير). المخرج العائد إلى السينما بعد انقطاع، يصوّر في مدينة فاس بالأبيض والأسود، على وقع أغنيات وأهازيج تراثيّة، حكاية عودة فنّان مغربي من مغتربه/ ملجئه الفرنسي إلى أرض البؤس الأولى التي لم تتغيّر كثيراً منذ طفولته المعذّبة.
أما مواطنه من الجيل اللاحق نبيل عيّوش، فقدّم العرض العالمي الأول لفيلمه الجديد «مهما أرادت لولا...» (خارج المسابقة). الفيلم الذي يحمل طابعاً (هويّة؟) «أميركيّاً» واضحاً على المستويين الجمالي والتقني، يتميّز بمهارة فنيّة لافتة نجد فيها لمسات صاحب «علي زاوا» الذي يمكن اعتباره من أبرز سينمائيي جيله عربيّاً.
كذلك يعطي «لولا» للمثّلة اللبنانيّة كارمن لبّس أحد أجمل أدوارها على الشاشة حتّى الآن (مع الأميركيّة لورا رامسي، والتونسي هشام رستم). لكنّه يقع في فخّ السذاجة والتسطيح والطوباويّة والسياحيّة، في معرض رصد تلك العلاقات الشائكة التي تربط الولايات المتحدة اليوم بالعالم العربي.
من المغرب أيضاً لا بدّ من إشارة إلى مخرجين شابين قدّم كلّ منهما في دبي فيلمه الروائي القصير: الهادي أولاد مهنّد («مقهى الصيادين»)، ومحمّد آشَوَر («إيقاع»).
من مصر حضر، بشكل أو بآخر، جيل المكرسين والمعلّمين: داوود عبد السيّد مشاركاً، محمد خان («في شقّة مصر الجديدة»)، يوسف شاهين الذي كرّم غيابياً (مثّله المنتج غابي بستاني)، وعُرض فيلماه «باب الحديد» (١٩٥٨) و... «هي فوضى» (٢٠٠٧). وأيضاً الجيل الجديد: من كريم جوري («صنع في مصر»، المهر الذهبية للأفلام الوثائقيّة) إلى عمرو بيومي («بلد البنات»، عن سيناريو لافت للزميلة علا الشافعي). فيما يستحق سعد هنداوي جائزة أسوأ فيلم عن «ألوان السما السبعة» (ليلى علوي وفاروق الفيشاوي)، الذي يقوم على أحكام أخلاقيّة اختزاليّة. يسلّط المخرج الشاب الكاميرا، طوال الفيلم، على سماء القاهرة، مقحماً التراث الصوفي في عالم مسطّح، مقسوم إلى ساقطات وتائبين!
مسعود أمر الله آل علي، المدير الفني لـ«مهرجان دبي السينمائي الدولي»، والمنسق العام لجوائز المهر، حاضر على كل الجبهات. إنّه نموذج جيل جديد في الثقافة الإماراتيّة، مشغول بمدّ جسور حقيقية مع أقرانه العرب. عشرات العروض العربيّة والعالميّة في صالات مختلفة، كل واحدة تضاهي الأخرى فخامةً. تفكّر بمهرجان عربي عريق مثل «أيام قرطاج السينمائيّة» في تونس، ينعقد منذ دورتين في ظروف (تقنيّة) مزرية!
يمكن أن نأسف لأن هذا المهرجان الناجح لجهة البرمجة، يقام من دون جمهور بالمعنى الحقيقي لكلمة جمهور. نعرف أنّ البدايات دائماً صعبة. وفي مملكة المال والأعمال، والأسهم والاستثمارات، لا بد من الإبحار عكس التيار، والعمل بكدّ بغية استحداث مكان شرعي للثقافة التي لا يقوم مجتمع من دونها.
هذا ما تتيقن منه حين ترى الطريقة المنهجيّة والتعدديّة التي تدار بها الأمور هنا. وتلمس الجهد الذي يبذله فريق المهرجان من أهل الحاضرة، وشركائهم من مثقفين وسينمائيين ونقاد، من مختلف أنحاء العالم العربي.
أخيراً لا يمكنك سوى أن تعجب بهذا الشعب الصغير المحاط بناطحات السحاب، الذي يعيش وسط أدغال من الشعوب الغريبة، بلغاتها وثقافاتها التي ترفد تلك العجلة المنتظمة. إنّه مسرح النقائض والمفارقات بامتياز: بدلاً من أن يخاف منها، وظفها وبنى عليها فرادته، «أعجوبته» الاقتصاديّة. هناك في دبي أسرار كثيرة لا بدّ من سبرها، وظواهر عدْة تستحق أن تدرس بتأن، وأكثر من فيلم يمكن تصويره في أدغال المدينة الإمارة.



انتبه هذه كانت حرباً!

السينما اللبنانيّة حضرت بكثافة في مهرجان دبي، من خلال مختلف الأجيال والأساليب والقوالب. وتبدو الحرب هي العبء الذي يرخي بظلاله وهواجسه على معظم التجارب، الشابة والمكرّسة. أفلام روائيّة قصيرة بتوقيع شباب، أبرزها «جيش من النمل»، حيث يغوص وسام شرف بأسلوب يجمع بين الواقعيّة والغرابة، في آثار تلك الحرب وما بعدها على الجيل الجديد. وهذا الهاجس نقع عليه نفسه عند شادي زين الدين في شريطه الروائي الطويل الأوّل «على الأرض السماء» حيث يرصد تداعيات تلك الحرب، وتقاطع أزمنتها وقصصها الضائعة. وأخيراً يأتي فيلم «خلص» لبرهان علويّة، أحد رموز الرعيل المؤسس، ليعود إلى ذلك الفراغ، ويستحضر أشباح الماضي في لحظة بناء السلم الأهلي الهشّ الذي لن يفضي في النهاية سوى إلى فراغ. العدوان الاسرائيلي الأخير على لبنان، شغل أيضاً أكثر من فيلم وتجربة. الموسيقي التونسي أنور ابراهم عرض في دبي فيلمه «كلمات ما بعد الحرب ـــــ بيروت صيف ٢٠٠٦» الذي يعود فيه إلى تلك اللحظات الصعبة، وأوجاعها المدفونة في اللاوعي الجماعي، من خلال محاورة شخصيات اعلاميّة وإبداعيّة في بيروت ما بعد العدوان. فيما تؤرّخ مي المصري للعدوان في «٣٣ يوماً» راصدة حياة أربعة شبان (فنانين وإعلاميين) يعملون في الإغاثة. وأخيراً يأتي فيلم فيليب عرقتنجي الإشكالي «تحت القصف» الذي اتهمه بعض النقاد بالتعامل مع حرب تموز كأنها ديكور لفيلم مربح. وعاب عليه كثيرون «استغلاله» تلك المأساة وجراح ضحاياها في فيلم يدّعي ادانة العدوان، من دون أن يتخذ من الصراع موقفاً واضحاً وصريحاً.