strong>بيار أبي صعب
■ إذا شبعت خلال الأيام المقبلة من السهرات العائليّة وجلسات الأنس، وقررت ارتياد الصالات المظلمة، فاعلم أن الأفلام اللبنانيّة تحتل موقعها على شاشات العيد... لكن بوسعك الهروب إلى عوالم أخرى مع جورج كلوني وخلّانه

شبح الحرب يخيّم على الشاشة... والاستعراض الهوليوودي هو الخلاص الوحيد

إذا كنت (بفتح التاء أو كسرها) من المعجبين بالنجم الوسيم جورج كلوني، فعليك بفيلم توني غيلروي «مايكل كلايتون»! كلوني هنا ليس عنده سوى عيب بسيط، إنه يحب المقامرة، ويجرّ ديوناً مرهقة من جرّاء زلّاته. أمّا في ما عدا ذلك، فهو البطل الإيجابي الذي لن يهدأ له بال، قبل أن يعيد إحقاق الحقّ. الفيلم يتناول تجاوزات الشركات الكبرى، دفاعاً عن مصالحها... شركة UNorth للأسمدة تواجه شكوى من مئات المزارعين بسبب أحد المبيدات التي سوّقتها، ويكشف تقرير هيئة مستقلّة أنّه يتضمّن موادّ سامة، تفتك بحياة البشر. آرثر (توم ولكنسون) المحامي اللامع الذي يدافع عن مصالح الشركة ضدّ أصحاب المزارع، لم يعد يحتمل مواصلة لعبته المضلّلة، ووصل إلى حافة الجنون. لقد قرّر أن يفضح الشركة التي يعمل لمصلحتها، وينقلب عليها.
وهنا يدخل على الخط مايكل كلايتون (كلوني)، صديق آرثر وزميله في أحد أشهر مكاتب المحاماة في نيويورك. كلايتون الذي يعاني متاعب ماليّة بعد طلاقه من زوجته، سيطلب منه مديره (سيدني بولاك) أن يعيد هذا الصديق إلى صوابه، ويردعه عن المضيّ في جنونه. لكنّ بطلنا بدوره سيكتشف الحقيقة، ويفهم خلفيات سلوك آرثر ودوافع تصرّفاته الصادمة (خلع ملابسه في اجتماع عام). سيكون عليه أن يواجه مختلف أشكال التهديد، ومحاولات الاغتيال والإغراءات المادية، ويواجه امرأة «يونورث» الفولاذيّة كارين كراودر (تيلدا سوينتون)، كي يواصل مسيرة زميله الذي وُجد مقتولاً في شقته. وسيكشف الحقيقة طبعاً، ويفضح الأشرار. ويخرج المشاهد مطمئناً إلى عودة الأمور إلى مجاريها، والعدالة إلى نصابها في أميركا، نعيم العدالة والقانون.
أمّا الفيلم اللبناني «تحت القصف» (فيليب عرقتنجي)، العائد من «مهرجان دبي السينمائي» بجائزة كبرى، أثارت وابلاً من الاحتجاجات والانتقادات، فيقارب العدوان الإسرائيلي على لبنان، صيف 2006. وهو هدف نبيل بحدّ ذاته، مشروع في كلّ الأحوال. لكن طريقة المعالجة، وزاوية المقاربة، سرعان ما تتركان المُشاهد في حيرة، لا تلبث أن تنقلب انزعاجاً مزمناً!
زينه العائدة من دبي آخر أيام العدوان (ندى أبو فرحات)، بحثاً عن ابنها الذي جاء يمضي عطلته مع خالته في قريتها الجنوبيّة (خربة سلم)، ستستقل سيارة أجرة فور وصولها إلى مرفأ بيروت، وتمضي في اتجاه الجنوب... وتبدأ المغامرة على الطرق والجسور المدمّرة، وبين خرائب القرى وملاجئ المهجّرين. زينه المسلمة والسائق المسيحي طوني (جورج خبّاز) الذي يعرف المنطقة، لكونه من قرية جنوبيّة مسيحيّة تحمل وزراً ثقيلاً هو تعامل جزء من أبنائها مع العدوّ الصهيوني، من خلال التحاقهم بـ«جيش لحد». هذه الخلطة الإشكاليّة التي ستحتضن قصّة حبّ مضمرة، لن تقود إلى عمليّة فحص ضمير جماعي حول ماض قريب ما زالت جراحه راعفة. هناك خطبة طوني على العشاء أمام أبناء عمّته، في مكان غير بعيد عن الشريط الحدودي حيث ستمضي الأم بحثاً عن ابنها. وهناك في المقابل رثاء زينه لأختها التي قضت تحت ركام المنزل العائلي: «هذه الحرب ليست حربك يا مهى». وفي أكثر من مشهد، يبدو الشريط قائماً على استثمار الحدث الفظيع لبناء استعراض محايد.
يحاول الفيلم مزج الروائي بالوثائقي... فإذا بندى أبو فرحات تستدرج النساء المهجّرات فعلاً إلى لعبة سينمائيّة، وقد تركن خلفهنّ عائلات تحت ركام القرى والمدن المدمّرة. توقعهنّ في فخ الكاميرا (كأننا في برنامج الكاميرا الخفيّة!). وهذه وحدها غلطة أخلاقيّة وذوقيّة فظيعة، تكشف البرود والحياديّة اللذين يتعامل من خلالهما عرقتنجي مع العدوان الهمجي وتبعاته الثقيلة. ما يبرر الاتهامات الموجّهة إليه بكونه يستغل المأساة وأهلها ومسرحها وضحاياها وجراحها الغائرة في الوجدان الجماعي. يوظّفها بصفتها عناصرَ جماليةً ومؤثرات نفسية وشعوريّة، ضمن استعراض لا يبتعد كثيراً عن فيلمه الأوّل «البوسطة»، وإن تعامل هنا مع الأشياء بطريقة معكوسة: الإطار كوميدي هناك، ترك مكانه للطابع المأسوي هنا... لكن العلاقة السطحيّة بالواقع لم تتغيّر. «البوسطة» فيلم استعراضي، يجسّد بقايا أوهام المرحلة الحريريّة بالبناء وتجاوز الحرب بأي ثمن، ولو عن طريق تسطيحها واختزالها وتذويبها في لعبة سياحيّة فولكلوريّة وتسوويّة. أما «تحت القصف»، فيتخذ من جراح تمّوز 2006 وقوداً درامياً لاستعراض نفسه: استعراض لا يهمّه أن يحيط بخلفيات المأساة، وأبعادها الإنسانيّة، وجذورها السياسيّة والوطنيّة. يهمّه أن يحقق أوسع إجماع، أي أوسع نجاح تسويقي.
فيلم برهان علويّة الجديد «خلص»، يحتل مكانه أيضاً، بخفر، على شاشات العيد. فيلم حميم لأكبر السينمائيين اللبنانيين الأحياء، يحكي عن جيل لم يُشفَ من جراح الحرب الأهليّة، ولم يقبل بكل التنازلات التي قدّمت باسمه، وأجّلت الأسئلة إلى حروب لاحقة (راجع «الأخبار»، ٢٦ ت2/ نوفمبر). أحمد (فادي أبو خليل) وروبي (ريمون حصني)، شابان ضائعان في بيروت يطاردهما شبح الحرب، ويواجهان صعوبة الانخراط في خطاب الإعمار والسلام الأهلي... فيبدآن انزلاقهما البطيء الى الجحيم، في أدغال مدينة السماسرة والمقاولين والمناضلين السابقين الذين انخرطوا في لعبة البزنس والفساد.
قد يشكو «خلص» من بعض الهنات التقنيّة والفنيّة التي تعكس رحلة صاحبه مع المصاعب طوال ست سنوات. لكنّه ليس فيلم مغامرات، بل عمل فنّي مجازي يلامس حدود الأسلبة والتجريد. ليس فيلماً سياسياً، بل مانيفستو شعري وميتافيزيقي يحكي اليأس والخوف من المستقبل. وصيّة سوداويّة يتركها صاحب «بيروت اللقاء» للآتين بعده. بدأه في بيروت المستسلمة لأحلام السلم والإعمار الواهية... ولم ينجزه إلا وبيروت تتخبّط مجدداً في الفراغ المريع. لكن لا وقت للسوداويّة الآن، إنّه موسم العيد!

«مايكل كلايتون»: صالات «أمبير»
«خلص»: صالات «أمبير» و«ميتروبوليس» (الحمرا)
«تحت القصف»: صالات «بلانيت»