بيار أبي صعب

• حكاية الرجل الذي عشق البيانو وفضّل الجاز وأنشد للحريّة
الفنّان الذي غيّبه الموت الأحد الماضي في ضاحية تورونتو الكنديّة، عن ٨٢ عاماً، هو أكثر من عازف بيانو ماهر منحدر من سلالة أرت تاتوم... وأكثر من مؤلف جمع بين الكلاسيكيّة والحداثة. إنّه آخر عمالقة الجاز، وآخر الشهود على عصر كانت فيه الموسيقى السوداء في أميركا، فضاءً للتأمّل والنشوة والعصيان
كلا لم يكن لاعب كرة، لم يكن ملاكماً أو رياضيّاً من أي نوع. بل عازف بيانو. عازف البيانو الشهير أوسكار بيترسون (١٩٢٥ ـــــ ٢٠٠٧)، أحد كبار الجاز خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أغمض عينيه للمرّة الأخيرة، الأحد الماضي، في منزله الكائن في ضاحية تورونتو. كان مؤلفاً ومؤدياً برز في العزف المنفرد، وفي فن التريو... وعزف مع عمالقة مثل شارلي باركر ولستر يونغ وديزي غيلسبي وستان غيتز. ورافق مطربات مثل بيلي هوليداي، سارا فون وخصوصاً إيلا فيتزجيرالد.
هذا الصيف، كان العالم كلّه على موعد معه في مهرجان «الجاز في تورونتو»، لكنّ صحّته حالت دون مجيئه إلى الموعد الوداعي. في الآونة الأخيرة أخذ ينسحب تدريجاً من الحياة العامة، وتوقف عن العزف وإحياء الحفلات. العملاق الأفرو ـــــ كندي الذي كان يزن ١١٣ كيلوغراماً، ويزيد طوله على متر وتسعين سنتمتراً، أودى به الفشل الكلوي عشيّة الميلاد، في الثانية والثمانين. علماً أنّ عهده بالمرض كعهده بالحياة. السلّ في الطفولة، ثم داء العصبي المزمن. لقد عزف عقوداً، كمن يصارع ضدّ ألم لئيم يلاحقه كاللعنة، يحاول أن يكبّل يديه الرشيقتين... وفي عام ١٩٩٣ أصابه فالج شل ذراعه اليسرى، وأقعده عامين عن العزف. ثم عاد. عاد بيترسون ليقف على الحلبة. يده اليسرى كانت قد فقدت شيئاً من مهارتها الأسطوريّة. ما همّ؟ اليمنى ما زالت هنا. هذا الرجل لا يحسن غير مداعبة البيانو...
كلا ليس أميركيّاً العمّ أوسكار، بل كندي. ولد في مونتريال من عائلة بسيطة هاجرت من جزر المارتينيك. الأب حمّال في شركة شحن عبر السكك الحديد، والأم تعمل في خدمة المنازل. لكن دانيال بيترسون كان يملك حبّاً سريّاً هو... الموسيقى. وقد اشترى لأولاده أرغناً منذ نعومة أظفارهم. أرادهم أن يدرسوا الموسيقى، وهذا ما فعله أوسكار منذ الخامسة. بدأ بدراسة البيانو والترومبيت، لكن السلّ الذي فتك برئتيه، وأقعده عاماً كاملاً في المصحّ، لم يترك له سوى البيانو.
أخته ديزي التي صارت لاحقاً عازفة كلاسيكيّة معروفة، كانت أستاذته الأولى. ثم درس على يد لويس هوبر المنحدر من مدرسة الجاز الكلاسيكي في هارلم العشرينيات... وفي «مونتريال هاي سكول»، سيعرف أستاذه الثالث الذي اكتسب على يديه الأسس الصارمة للعزف على البيانو. بول دي ماركي العازف المجري المنحدر من مدرسة فرانتز ليست، لقّنه «تقنيّة الأصابع السريعة»، ويعطيه القوّة اللازمة للإيمان بموهبته الاستثنائيّة.
كان دانيال بيترسون ينظر بعين الريبة إلى تماس ابنه مع عالم الجاز، إذ طالما أراد له أن يخوض غمار الموسيقى الكلاسيكيّة. لكنّ أمّه لم تكن من هذا الرأي، ولا أخته ديزي التي دفعت به في الرابعة عشرة إلى أوّل مسابقة للعازفين الهواة، تنظمها الإذاعة الكنديّة. هنا لفت أوسكار الأنظار بشكل صارخ، وفاز بالجائزة الرفيعة وقدرها ٢٥٠ دولاراً. الإذاعة ستكون منطلقه المهني من خلال مشاركات وبرامج عدّة. نحن في مطلع الأربعينيات، هذا العقد الذي سيشهد صعوده وتبلور موهبته. من عازف البيانو المنفرد في أوركسترا للرقص الشعبي، كل أفرادها من البيض، إلى نوادي الجاز في مونتريال، وصولاً إلى تسجيل أسطواناته الأولى:
The Sheikh of Araby وI Got Rythm ستعرفان نجاحاً لافتاً ذلك الوقت.
أواخر الأربعينيات كانت شهرة بيترسون قد وصلت إلى المقلب الآخر، إلى معقل الجاز. بدأ الحديث في أوساط الجاز الأميركيّة عن ذلك الشاب الأسود الذي يعزف على البيانو بمهارة نادرة. ديزي غيلسبي لفت نظر مدير أعماله إلى «عازف بيانو استثنائي لم يسمع مثله من قبل»، واقترح تنظيم حفلة لهذا الشاب. لكن مكتشفه الحقيقي سيكون امبريزاريو آخر، اسمه نورمان غرانز، مؤسس شركة Verve الأسطوريّة لأسطوانات الجاز، والمناضل من أجل الحقوق المدنيّة للسود في
أميركا.
جاء غرانز خصيصاً من نيويورك إلى مونتريال، لسماع هذا العازف الذي تقول الشائعة إنّه من سلالة آرت تاتوم. وفعلاً نشأت بين الاثنين علاقة مهنيّة ستدوم عقوداً طويلة. نورمان غرانز، هو الذي أطلق فعلياً أوسكار بيترسون... أخذه في عام ١٩٤٩ إلى نيويورك، ليكون مفاجأة الحفلة التي تحييها فرقة Jazz at the Philharmonic في الـ«كارنيغي هول». الفرقة المذكورة كان نورمان غرانز قد جمع فيها كبار الجاز آنذاك. أوسكار بيترسون الذي صفقت له الصالة الشهيرة طويلاً، كان في الرابعة والعشرين.
هكذا احتل الفنّان الشاب مكانته بين الكبار. في العام التالي سجّل أولى اسطواناته عند شركة Verve، مشكّلاً الإطار الذي سيبرع فيه بامتياز: أي «الثلاثي». التريو هو التركيبة التي تألق عبرها فنّ بيترسون. حتّى أواسط الستينيات سيبقى على التشكيلة نفسها مع بعض التعديلات. هو على البيانو، صديقه راي براون (ملك الـBe-Bop) على الكونترباص، وهيرب إيليس (الذي حلّ مكان بارني كيسيل) على الغيتار. أحياناً سيأخذ الدرامز مكان الغيتار، مع إد ثيغبن وآخرين. وفي أواسط التسعينيات عاد التريو الأسطوري (بيترسون ـــــ براون ـــــ إيليس) ليجتمع لإحياء سلسلة حفلات عبر العالم، وأصدر عدداً من التسجيلات أبرزها Live at the Blue Note.
كلّما سئل بيترسون عن تأثراته، كان يجيب بلا تردد: آرت تاتوم (١٩٠٩ ـــــ ١٩٥٦). هذا المعلّم حين سمعه صغيراً للمرّة الأولى بمبادرة من والده، أصيب بالذهول ولم يلمس البيانو طوال شهر كامل. حاول أن يقتفي أثره لجهة قوّة الأداء، والوتيرة الخاصة، والسيطرة المطلقة على الآلة التي «كان آرت حين يعزف يعطيها كلّ اعتبارها». وربّما كان طيف الملهم الأوّل حاضراً في سلسلة الحفلات والتسجيلات التي أحياها وقام بها في السبعينيات، عازفاً منفرداً على آلة البيانو. لكن إذا كانت تلك الوتيرة المضبوطة التي أخذها عن تاتوم تصنع فرادته، فإنه لم يخفِ يوماً تأثراته المختلفة بفناني جاز شعبيين من نات كينغ كول إلى بيل إيفنز.
من أشهر تسجيلاته نشير إلى أسطوانة Canadiana suite (١٩٦٤) التي تشكّل مقطوعاتها رحلة عبر المناطق الكنديّة المتنوّعة ثقافياً وموسيقيّاً. هناك أيضاً مقطوعة «نشيد للحريّة» (١٩٦٢) الذي اعتبر صرخة ضدّ التمييز العنصري، في زخم الحركة التي أطلقها مارتن لوثر كينغ في الولايات المتحدة. وقد عُزف النشيد وقدّم، ولا يزال، في شتّى الحقبات السياسية وفي مختلف أنحاء العالم. وهناك تباعاً African Suite (١٩٧٩)، Easter Suite (١٩٨٤)، Love Ballades (١٩٨٦)، وCity Lights (١٩٧٧) التي وضعها لفرقة الـ«باليه ـــــ جاز» في مونتريال. لكن مشاهدة حفلاته المصوّرة أكثر من ضرورية لمن يريد أن يستعيد نبض هذا الفنّان الاستثنائي، مهارته، وخفّته، ودقّته المرضيّة، وتلك النكهة الملوّنة التي تذكّرنا أن موسيقى الأفريقيّة ـــــ الأميركيّة، هي قبل كل شيء فضاء للتأمل والراديكاليّة والنشوة والعصيان.
عبرَت المدارس والظواهر الموسيقيّة القرن، من الروك اند رول إلى الريتم إن بلوز... ظهر عازفون كبار في سماء الجاز الذي صار بذاته مدارس واتجاهات مفتوحة على الروافد الإتنيّة المختلفة، من دون أن ننسى الـ«فري جاز»... لكن أوسكار بيترسون تابع المسيرة بهدوء وإصرار. فاز مراراً بجوائز «غرايمي» للموسيقى، بين ١٩٧٥ و١٩٩٠. بقي هنا حتى أمس، حارساً للهيكل، آخر ممثلي مدرسة الجاز القديم. كلاسيكي أوسكار بيترسون؟ لعلّها طريقته في إرضاء تطلعات أب بعيد، كان يحلم لابنه بطريق أخرى في عالم الموسيقى.