رنا حايك
“على حافة الطريق تنتظرني الذاكرة. بيضاء وشاحبة، تناولني طرف الخيط من كتلة الصوف التي تحملها...” ينطبق هذا البيت الشعري للفرنسي تيوفيل غوتييه على عمل آلان جينو (1965). التقط هذا المصوّر الأميركي طرف الخيط من ذاكرة فلسطينيي الشتات هذه المرة، وراح يتعقّب أثرهم في خرائط الأمم المتحدة على مدى سنتين من البحث المضني. فتّش عن جنّتهم المفقودة وعن منازلهم التي أصبحت غريبة عنهم بعد نكبة 1948. لكنّه لم يجد سوى شوارع بأسماء عبرية وأنقاض قرى تحوّلت حدائق عامة للاسرائيليين فيما اندثرت المنازل كالسراب.
من لبنان والأردن الى غزة والضفة، راح جينو الذي يعيش في لندن يصوّر الفلسطينيين في مخيماتهم وفي بيوت الصفيح التي لجأوا إليها من هنا وهناك. كانت فكرته واضحة: وضع الى جانب البورتريهات التي أخذها في تلك المخيمات، صورة لمنزل هؤلاء الفلسطينيين أو قريتهم التي غادروها عقب النكبة. ولم يكن سهلاً إنجاز هذا المشروع الضخم. إذ تطلّب أولاً تنقلاً دائماً للمصور بين لبنان وغزة والأردن والضفة الغربية وإجراء بحث دقيق داخل الخط الأخضر لتحديد الموقع الجغرافي الصحيح لقرى ومنازل هؤلاء الأفراد بعدما غادروها ليتشتّوا في أصقاع الأرض. وإذا بجينو يخرج ببانوراما ترصد اختفاء معالم “الوطن” تاركةً صوراً اختزنتها الذاكرة لتدلّنا على الطريق إلى المكان الأول ــ الوطن.
هذه الصور يضمّها اليوم معرض “الوطن المفقود” الذي يقيمه “زيكو هاوس” (بدعم من “المركز الثقافي البريطاني”) في “مسرح المدينة” حتى 14 من الشهر الجاري. تختزل مجموعته محاولةً مبتكرة للملمة بقايا الذاكرة. وهي محاولة لإعادة إحيائها عبر استرجاع تواريخ دامية وعناوين تائهة لأماكن يغيّر الاحتلال معالمها باستمرار ويبدّل أسماءها. بل أكثر من ذلك، هي فعل مقاومة لعملية محو التاريخ والذاكرة لشعب لم يعد يملك من ماضيه غير الذاكرة ومفاتيح لمنازل هدمت.. هكذا، تطالعنا في إحدى الصور امرأة ومعها مفتاح منزلها الذي يثقل رقبتها.
تمتدّ الصور على جدران قاعة نهى راضي في “مسرح المدينة” وتتوزّع بتشكيل ثنائي. لا يكتمل البورتريه الواقعي من دون صورة تتاخمه عن الماضي المفقود والمكان الأول. يفيد التعليق المكتوب أسفل أحد البورتريهات الذي يظهر عجوزاً ترتدي فستان عرسها بأنه لـ “زينب السقا ــ تسكن في مخيم برج البراجنة. موطن العائلة الأصلي هو النهر ـــ محافظة عكا”. والى جانب البورتريه، وضع جينو صورة عن قرية زينب وكُتب تحتها “آثار القرية مع مخلّفات النشاط العسكري في 1948”. لكن كيف أقنع جينو تلك الجدة المسنّة بارتداء ثوب عرسها فوق جلد تغزوه التجاعيد؟ لم يحتج الى إقناعها. ربما أحبّت زينب أن تستعيد تلك اللحظة إلى جانب صورة تظهر أطلال قريتها وذاكرتها.
تحت صورة محيي شحادة وحفيدته، أفادت المعلومات المتوافرة أنه “يسكن في مخيم برج البراجنة في لبنان. ولد في كويكات، خدم في الجيش البريطاني” وتحت صورة قريته كُتب “كويكات، محافظة عكا، بقايا مقبرة القرية”. حتى المقبرة تعرضّت لاقتلاع الذاكرة واغتصاب المكان.
لم يوفّق جينو دائماً في اقتفاء أثر المنازل، حتى إنّه عجز غالباً عن إيجاد القرية. كما حدث مع قرية بيت درس التي صوّر موقعها معلّقاً أنه “لم يعد لها أثر”. لكن محمود منصور الذي يقطن في مخيم جباليا في غزة ما زال يذكر اسم بيت درس وموقعها جيداً فيما اختفت من ذاكرة أحفاده ومن المكان نفسه...
يرى جينو أن معرضه هذا هو مشروع انساني يربط الأفراد بأمكنتهم ولا يريد به العودة الى الوراء. لكن الخطوة التي قام بها هذا المصوّر تسهم في استغلال آخر خيوط الذاكرة المتوافرة لدى جيل لأرشفة مكان يقدم دليلاً حياً على تاريخ يغتصب كل يوم. والمعرض الذي يستمر حتى منتصف الشهر، سنتقل الى القاهرة والاسكندرية وغيرهما من المدن العربية.

  • “الوطن المفقود”، ألان جينو ــ مسرح المدينة 01.753010