دمشق ــ خليل صويلح
  • الشاعرة الراحلة تستردّ أهدابها من صدأ العزلة وزرنيخ المنفى

    من يذكر سنيّة صالح، الــشاعرة الــمفردة الــتي صمتت قبل الأوان؟ صدور أعمالها الكاملة في دمشق، بتقديم من خالد سعيد، مناسبة لإعادة اكتشاف صاحبة «ذكر الورد» التي عاشت في ظل رفيق دربها محمد الماغوط، واتخذت من الشعر عزاءً وملاذاً

    «إنها شاعرة كبيرة، لم تأخذ حقها نقدياً. ربما أذاها اسمي، فقد طغى على حضورها. كانت شاعرة كبيرة في وطن صغير»، بهذه العبارة اختصر الشاعر الراحل محمد الماغوط، ذات يوم، تجربة رفيقة دربه سنيّة صالح (1935- 1985). كانت صاحبة «حبر الإعدام» شاعرة مفردة حقاً. لكنّ المعجم النقدي أهملها طويلاً في حياتها وغيابها، فهي «لا تنحدر من سلالة شعرية» أو تيار. كتبت ألمها الشخصي وذاتها الجريحة وأحلامها المنكسرة بصمت وعزلة وتمرد، على رغم أنها دخلت حقل الشعر كالإعصار، بعدما فازت قصيدتها «جسد السماء» بجائزة صحيفة «النهار» عام 1961. وكانت مفاجأة حقيقية للجنة تحكيم الجائزة آنذاك.
    صدور أعمالها الكاملة في دمشق (منشورات وزارة الثقافة)، حدث استثنائي يعيد بعض الحق الضائع إلى «آخر طفلة في العالم». قدمت للأعمال الكاملة شقيقتها الناقدة خالدة سعيد بدراسة شاملة رصدت خلالها المختبر الشعري الذي بلور تجربة سنيّة صالح. واعتبرت أنّ الألم الذي رافق شعرها هو ترجيع لانكسار الحلم وتصدع الصورة التكونية للعالم وقلق الإحساس بالذات والإحساس بارتجاج موقع الذات ومرتكزها وأفق حضورها. وكان الشعر هو الضوء السري الذي بقدر ما يكشف هول الصراع في التجربة، يقدم المعاني الخلاصية.
    ديوانها الأول «الزمان الضيق» (1964)، كان بياناً شعرياً لعبور النار واشتعال الجسد والعقل والمخيّلة بحمّى الكشف، كما لو أنّ الشعر هو حلم وحدس ومكاشفة غامضة لردم الآلام. وهو ما تشير إليه خالدة سعيد إذ تكتب: «هو شعر على حدة لا يشبه أحداً، وليس منضوياً في تيار. شعر لحزن متوحش ينبجس من الجوهر الأنثوي الخالق المطعون المسحوق عبر التاريخ. بقدر ما ينشد حكاية المغدورين، يتقدّم كصيحة للجسد الذي انتهى بين المباضع وأسرّة المشافي».
    هل كان شعر سنيّة صالح عصياً على المساطر النقدية، كي يُهمل ويُقصى بعيداً من تجربة الستينيين؟ قد يكون هذا سبباً جوهرياً. وقتها لم تكن الشاعرة في وارد الهتاف ودقّ النفير، بل ذهبت في اتجاه الذات ومكابداتها الشخصية، و«طلبت من الحب أن يكون ثأرها من العالم وحصانها السحري للنجاة». تذكر خالدة سعيد أنّ سنيّة كانت صامتة على الدوام في طفولتها، وتبيّن لاحقاً أنها كانت تكتب أحاسيسها على كراساتها المدرسية بوصفها مجرد «خربشة». وفي بيروت أواخر الخمسينيات، لفتت انتباهها في مجلة «شعر» أولاً قصيدة سان جون بيرس «ضيقة هي المراكب» التي ترجمها أدونيس، ما يعطي فكرة عن حساسيتها المختلفة عمّا كان يُكتب من شعر. وفي حوار مبكر معها إثر فوزها بجائزة جريدة «النهار»، قالت: «أنا أعجز أن أغيّر العالم أو أجمّله أو أهدمه أو أبنيه. أحسّ أنني كمن يتكلم في الحلم. ماذا يؤثر في العالم الكلام في الحلم؟». لم تكن القصيدة رصاصة إذاً، كما كان يتردد آنذاك، إنما تاريخ للطغيان وأرجوحة تتطاير بين الخارق الخرافي والمهمش والفاجع. تشير خالدة سعيد إلى «عالم معطوب ورؤيا جامحة وفوران سديم وأحشاء غاضبة وخيال طفولي. كان الشعر حربها وصراخ جسدها وروحها. كان ثأرها وخشبة الخلاص وفخ الأمل».
    لن يجد القارئ في شعر سنيّة صالح عناصر مألوفة ولغة منتهكة. سوف يفاجأ بمفردات صادمة لذائقته، وسيواجه عالماً معدنياً، وبراكين من زرنيخ، وضمادات وأسيد وبوتاسيوم و«قمر طويل للنفايات». في هذا المختبر، تنمو قصيدة سنية صالح كما لو أنها مشتل الخراب والهذيان. تتكشّف الفجائعية على نحو واضح في ديوانها الثاني «حبر الإعدام» (1970)، إذ لا زهور في شعرها ولا عطور ولا مشاهد لنزهة العين. الكلمة هنا، وفق ما تقول خالدة سعيد، «صرخة وجع لا تنتج الجمال والمتعة بل تفتح المداخل على التجربة. الكلمة هنا رسالة لتقليب الهويات فوق المشاهد الشاسعة لإنسانية مسحوقة، فهي تعمّر المشهد بالمفارقة كأنها تعد لفيلم سريالي».
    في المقدمة التي كتبتها لديوانها الأخير «ذكر الورد» (1988) الذي صدر بعد وفاتها، تكشف سنيّة صالح عن استراتيجيتها الشعرية: «عندما تحضر الحمّى الشعرية أخفف من حدة يقظتي، وأستسلم. ألغي مقاومتي لأعماقي إلى أقصى حد ممكن. تلي ذلك عملية تدفق داخلية، ترافقها عملية استسلام في الإرادة والحواس. ثم أدوّن ما أحصل عليه في مرحلة الهذيان هذه». هكذا تنهض القصيدة لديها على إضاءات حلمية، تقوى لحظة الانفجار الداخلي في مخاض عسير ومؤلم. تنسحب الشاعرة إلى أعماقها، إلى عالم سري غامض. قراءة «ذكر الورد» الذي كتبت قصائده بين باريس ودمشق خلال رحلة مرضها، تختزل العطب الذي عاشته سنية صالح بفقدان الأمل ونشوة الحب. في قصيدتها «امرأة من الطباشير»، تقول: «كيف يدخل الربيع والحب إلى جسد تحكمه الخسارة؟». الخسارة المعلنة سوف تكون محور قصائدها الأخيرة وأرشيفها في تدوين الألم: «أهدابي يتراكم عليها صدأ العزلة، وزرنيخ المنفى. أطلق سراحنا، فتحتَ لساني مصنّف مليءٌ بالإهانات، بذلّ يكفي لنسيان جميع الحريات». لم تتوقف سنيّة صالح عن كتابة الشعر حتى اللحظة الأخيرة. خلال العلاج الكيميائي أيضاً. الشعر كان عزاءها ووصيتها. تضيء «الأعمال الكاملة» جوانب من سيرتها وعالمها الخاص. نتعرف إلى نصوص غير منشورة، شعرية وقصصية، وبعض مذكراتها «سنيّة صالح، من أنت؟» التي في حوزة ابنتيها شام وسلافة، إضافة إلى حوار أجراه معها محمد الماغوط ونُشر في مجلة «مواقف» (1970) تحت عنوان «حين تكون الضحية أكثر إشعاعاً من النجوم». في تقديمه للحوار، يكتب محمد الماغوط بنوع من طلب الغفران والاعتراف: «في كل قصائدها تبدو زهرة عارية إلا من عطرها وعمرها القصير، تبحث وسط عري الكتب والأشخاص والأيام عن ربيع ما. ربيع ضائع قد لا يأتي أبداً. تبدو قصائدها وسط اللطخ الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تغطي العالم العربي بيضاء ناصعة كثياب الراهبات».

    سنيّة صالح، «الأعمال الكاملة» ــ «منشورات وزارة الثقافة» في دمشق