بيار أبي صعب
يطل رفيق علي أحمد، ابتداءً من هذا المساء، حكواتياً معاصراً في عمل مونودرامي جديد بعنوان “جِرصة” يصفّي فيه حساباته مع الزمن اللبناني الرديء... موجّهاً إصبع الاتهام إلى نظام المحسوبيات والطائفيّة والفساد والمهانة المستمرّة

رفيق علي أحمد يشبه نفسه بشكل مدهش: كما في الحياة كذلك على المسرح. هذا المسرحي اللبناني الذي يحتلّ مكانة على حدة بين أقرانه، بسبب شخصيّته وبسبب خياراته الجماليّة، لا تعرف متى يعيش ومتى يمثّل. لعلّه يمثّل فقط في مسرحيات الآخرين، منصور الرحباني وأولاده تحديداً (“حكم الرعيان”، “النبي جبران”...)، وفي السينما والتلفزيون طبعاً. أما في مسرحه الخاص، فهو يواصل “حياته الطبيعيّة”. هذا على الأقل ما يتبادر إلى ذهنك خلال البروفات الأخيرة على “جِرصة”، عمله المونودرامي الجديد الذي يفتتح هذا المساء على خشبة “مسرح مونو” البيروتي...
كالشبح الأبيض على المسرح، بملابسه وشيبته التي لن يفوّت فرصة توظيفها في اللعبة، وعناصر الديكور القليلة، البيضاء هي الأخرى وسط سواد عارم. يحكي، لا تعرف متى يكون في الدور، ومتى يتوجّه إلى غرفة الريجي، أو إلى رفيقة دربه الموجودة في الصالة، و... في النصّ المسرحي أيضاً. في كل الأحوال نحن هنا أمام عمل أوتوبيوغرافي جديد، روتشته يد الفنان طبعاً. “الحكواتي” رفيق علي أحمد لا يهمّه أن يحكي سوى عن نفسه، عن عالمه، عن ناسه، عن ذاكرته القريبة والبعيدة، الخاصة والعامة. عن هذا الواقع المضني الذي يسكنه كالهوس. الخشبة حلقة الحكايات، وحلبة الأحلام الموجعة والأوهام الجميلة، يريدها مرآة للحياة. والمرايا في العمل الجديد أيضاً، جزء أساسي من اللعبة المشهديّة. يخيّل إليك أن كل الأعمال المونودراميّة التي قدّمها رفيق بعد استقلاله عن “فرقة الحكواتي”، منذ “الجرس” و”زواريب” (ممدوح عدوان/ روجيه عسّاف) إلى “قطْع وصل”، محطات متكاملة في مشروع طويل بطله الجماعة ووسيطه الراوي رفيق علي أحمد.
الطرف الآخر الحيوي في المعادلة هو الجمهور. يلغي الفنان كل الحواجز التي تفصله عنه، يأخذه إلى جلسة السمر، يتقاسم معه الأماكن الحكايات والشخصيات. من دون أن يتخلّى عن ضمير المتكلّم. في “جِرصة” يمضي قدماً في تعرية ذاته، حياته الشخصيّة والعائليّة. يسمّي الأشياء بأسمائها. تجربته تختصر تجربة جمهوره/ شعبه، وتجسدها وتتقاطع معها. إنّه هذا الشيعي الذي تزوّج من درزيّة، وأطلق على ابنه البكر اسماً مسيحياً... صُدم به أهل الضيعة! والضيعة حاضرة بقوّة في تجربة الراوي. نعيش معه في المدينة التي قصدها ليصبح ممثلاً. مدينة فاضلة إلى زوال حدودها الـ «هورس شو» و «مسرح بيروت» والـ «ستاركو». لكن المرجع يبقى هناك، حيث «القيم والكرامة». أما هنا، فمجرّد life is money، وfast food، وpret-a-porter. ونساء للتصدير إلى الخليج، وفضائيّات للبيع. وحين تسد كل الدروب في وجه الفنان الذي لم يقدّم مسرحيّة من عشرين سنة، لا يبقى له سوى أن يهجس بـ «الهجرة إلى كندا» لكنّه لن يجرؤ عليها!
الراوي وحده مع «جرصته»، هذا العار الذي يحاصره. تلك المهانة أمام زوجته وأولاده، وأمام أهل الضيعة، وأمام التاريخ. الإهانة التي باتت الخبز اليومي للناس، في بلد قائم على الفساد، على نظام طائفي بال. زعماؤه يعتبرون المواطن «ليمونة تمصّ وترمى». ينتهر الحكواتي رفيق علي أحمد الناس مراراً، الشباب خصوصاً، يطالبهم بأن ينتفضوا لتغيير هذا الواقع بدلاً من الوقوف كالمتسوّلين مع شهاداتهم على أبواب الزعيم! كلام مستعاد؟ ربّما! لكنّه الواقع لم يتبدّل. الكلمات القديمة، وصرخات الغضب، وعبارات مثل الفتنة تأخذ هنا بعداً آخر...
ما يأسرك في العرض هو تلك الطاقة الفظيعة التي ينضح بها الممثل أمامك... تنتقل إلى الصالة كالعدوى. يتقمّص الحكواتي كل الشخصيّات، أمّه وأبيه وابنه، وسائق التاكسي. يتصل بمارسيل غانم مباشرة على الهواء ليقول له رأيه في النظام الاقتصادي، وليغيظ ضيف الحلقة صديقه «الماركسي» القديم الذي باع نفسه «للجماعة» (جماعة باريس 3؟) وصار يلبس الكرافات. «لا بد من تغيير الكيلة يا أستاذ مارسيل»، تغيير الكيّال وحده لا يكفي! يواجه أبيه، يواجه ماضيه، يواجه ابنه، يغني وديع الصافي ويرقص الـ RAP، ويمشي في جنازة نفسه...
ذلك هو رفيق، نلهث خلفه، بحثاّ عن جذور «الجرصة»، لنفهم ما «يخصيه» كما يُخصى الثور في القرية... تبدأ «الجرصة» من عطل جنسي، لتنتهي في مخفر الشرطة، بعد اتهام «نقيب الفنانين» أنه يسهّل تصدير «فنانات» إلى الخليج... ويمضي رفيق علي أحمد في هذيانه إلى الذروة، يتصوّر نفسه في المحكمة، وحده في مواجهة حكّام هذا الزمن: «النظام اللبناني شروال مهترئ، شجرة يابسة» لا بد من تغييره. لا بدّ من «المقاومة» كي يصبح البلد «سيداً، حراً، مستقلاً». وينتهي على أمل غامض... إرضاءً لطلب ابنته التي تريد مسرحيّة لا يموت فيها البطل!

ابتداءً من هذا المساء في «مسرح مونو» ــ بيروت : 01.320762