strong> رلى راشد
بوينوس آيريس في سبعينيات القرن الماضي، وتحديداً بعد عام على وفاة الديكتاتور خوان بيرون وقبل الإطاحة بحُكم أرملته ايزابيل. من خلف واجهة المطعم حيث اعتاد تناول وجباته، “يسترق” توماس ألوي مارتينيز، الصحافي الأرجنتيني والكاتب المُناهض لعسكرة بلاده، النظر الى شارع يبدو غارقاً “حتى أذنيّه” في يوميّاته. في لحظة، يدنو الموت منه، تحمله إليه عصابة قنّاصين تُزّنر المكان. تتملّكه الرهبة لا الاستغراب. فقد ملّ التهديدات والطرود المُفخّخة، فتستحوذ عليه فكرة مجنونة: تمكين الناس من كشف النقاب عن “وجوه” قاتليه. يتّصل بصحيفته، يُطالبها بمصوّر، فتُرسل إليه مجموعة مصوّرين تؤجّل بحضورها المُباغت استحقاق الموت.
ستبدأ مُذّاك رحلة نفي مارتينيز ومسار اعتقال رواياته في بلاده حتى سقوط الظلاميّة فيها وعودة الديموقراطية. اليوم تقودنا النسخة الإنكليزية (دار بلومسبيري) لروايته “مغنّي التانغو” (2004)، التي وصلت الى نهائيات جائزة “مان بوكر” الدولية، نحو شغفين أرجنتينيين هما بورخيس والتانغو. يزاوجهما الروائي من خلال خوليو مارتيل مغنّي يحمل سمات أسطورة التانغو كارلوس غوارديل الذي يصفه مارتينيز بصاحب “ألف من الأصوات” في إشارة الى “ألف” بورخيس.
يدخل التخيّل الى نسيج تاريخ بوينوس آيريس القاتم، من خلال الأكاديمي النيويوركي برونو كادوغان، الباحث عن حضور التانغو في كتابات بورخيس كما في أزقّة المدينة. يخطّ ماضيها المتململ والفاسد، بدءاً من مسالخها وبيوت بغائها وصولاً الى ناد رياضي عذّب فيه “ديساباريسيدوس” أي مفقودي السبعينيات والثمانينيات. نغادر العاصمة في نهاية 2001 وقد أُنهكت تحت عبء الانهيار المالي والتضخّم وجثث المتظاهرين.
أغضب مارتينيز السلطات منذ “رواية بيرون” (1985) السياسيّة الساخرة التي تمحورت حول عودة الديكتاتور الى الحكم، فيما استعاد في “سانتا ايفيتا” (1995) التي تُرجمت الى أكثر من ثلاثين لغة، الصراع الفظيع على جثمان السيدة الاولى الذي حُنّط بعد وفاتها. بُنيت الرواية التي فكّكت أسطورة امرأة استحوذت على قلب وأحلام وقلق بلاد “البلاتا”، بأسلوب فيلم اورسون ويلز “المواطن كاين” من خلال وصايا مجموعة عرفتها أو “التقت” جثمانها. نمرّ على المُحنِّط والخادم والأم ومصفّف شعر السيّدة وغيرهم. إنها رواية وسيرة وجدارية اجتماعية ــ سياسيّة ترقى الى الفانتازيا الهستيرية والقهقهة السريالية.
شرّع بورخيس نوافذ العالم أمام مارتينيز وقاده الى قراءة أبناء الجنوب لاسيما مواطنه كورتاثار وابن الأورغواي اونيتي وفوينتيس طبعاً، الروائي وسفير المكسيك في فرنسا الذي خبّأ “المَنفيّ” في شقّته الباريسية. في رأي فوينتيس، تختزل “سانتا ايفيتا” حكاية بلد لاتيني عاش وهم “أوربته” وعقلانيته ثم أفاق في صباح، ليجد نفسه لاتينيّاً تماماً مثل السالفادور او فنزويلا!
من خلال الحكاية والهلوسة والأقصوصة الوطنية، تحرّر مارتينيز من وزر المنفى ليتمكّن من تذكّر التاريخ ولحظات مجده وأسراره، مُحافظاً على حبل السرّة بين خياله وأرض أجداده ليُمسي أحد أكثر الأصوات الأرجنتينية دويّاً، إيماناً منه بأن الكتّاب، لا المعارك، هم رواة الحكاية الحقيقيّة.