بيار أبي صعب
رنا وصلت إلى بيروت. هي التي تحلم بالسفر، أو بالأحرى بالحكايات: إحداها عن «سماء لا تركض مسرعة/ مع اهتزاز القطارات». رنا التونسي تسافر ولا تصل. زادها مفردات عارية، منسية على الناصية. هذه البنت الشقيّة مَن دلّها على الشعر؟ جاءت على غفلة مع عفاريتها (التي «تظهر ليلاً»). تريد أن تقتصّ من الزمن الهارب ولمّا تكد تدجّنه. هذه الشاعرة المصريّة الشابة، تشي بحساسيّة جيل ممنوع من الساحات العامة، يتصرّف أفراده كاللصوص... فيما المنابر التي تحتلها ديناصورات مقلقة، مسيّجة بلغات يابسة جفّ نسغها منذ دهر. لكن ما همّ أن تضيق بهم «مؤتمرات الشعر»، ما داموا يضرمون النار، كلّ يوم، في قصور البطارسة، وقبورهم أيضاً.
رنا التونسي (1981) التي طالعتنا مجموعتها الرابعة «تاريخ قصير» من بيروت (دار النهضة العربيّة)، من تلك الاكتشافات المدهشة التي تحفل بها الساحة الشعريّة في مصر. قفزت إلى أحضان الشعر ولمّا تتجاوز الثامنة عشرة. «ذلك البيت الذي تنبعث منه الموسيقى» (قصور الثقافة) تخطيط أوّلي لديكور أليف سيلازم قصيدتها. سرعان ما تلقفتها «دار ميريت» لتنضمّ إلى مجموعة من الأصوات المميزة ــ والمشاغبة ــ على الساحة الأدبيّة في القاهرة، فكانت «وردة للأيام الأخيرة» (2002)، ثم «وطن اسمه الرغبة» (2004).
دخلت الشاعرة مبكراً إلى بستان الرغبة، وأخذت تراكم الندوب: «العابرون في خيالي/ لا يخافون محبتي/ يتركون أنفاسهم المُرّة في صدري،/ ويغادرون خلسة/ كأنني المرآة». وفي سيرتها المبكرة، تواصل مخاطبة عشاق غامضين تنوب عنهم الضمائر. تستأنف حيوات سابقة، متحسّرةً على كل ما فاتها، منذ الجدّ الذي لم يورثها بيانه. رنا الكلمات عائلتها. أمٌّ سرقت منها الطفولة وأعطتها أشياء أخرى. أب تعلّمت منه ألا تصدّق الحكايات والتواريخ. وكثير من الغياب والحزن الشافي. تكتب بانسياب وتلقائيّة، كأنها تخاطبك وحدك: «أحياناً أريد أن أقتلك/ على فراش نومك الشهي/ بطلقة واحدة من إحدى الحلمتين/ المستعدّتين دوماً للوثوب...». صور نزقة، غرابة ماغوطيّة، ودهشة الطفولة. «يتركك العالم/ وتبقى الطفولة/ للأبد».