رلى راشد
  • حكاية آدي... الطفل الذي صار وحشاً
    آلهة الكتابة دلّت نورمان مايلر على هتلر، فغاص في عالم مظلم يحبّه بحثاً عن السرّ. استعان الكاتب والصحافي الأميركي بفرويد ونيتشه وتولستوي، ليكتشف أن حبّ الـ«فوهرر» لأمه وكرهه لأبيه، جعلاه خليلاً للشيطان

    لا يبذل نورمان مايلر أيّ جهد للتستّر على طباعه الاستفزازيّة. في الرابعة والثمانين، ما زال هذا الكاتب الأميركي يثير المتاعب حوله. قد يكون تلاشى سمع العجوز العنيد الساحر بعـض الشيء وشحّ نظره، لكنّه ما زال وفياً للعشريني الذي كانه والذي كرّسه الوسط الأدبي الأميركي وريثاً لإرنست همنغواي. يقيم الكاتب في مدينة بروفينستاون، محجّة الفنانين والسيّاح التي يقول عنها إنّها أمست “عاصمة المثليين في الشمال الشرقي لأميركا”، بعدما سكنها الأنغلوساكسون البيض والبروتستانت وصيادو الأسماك البرتغاليون. وإلى مقرّ إقامته تصل أصداء مُتباينة وردود فعل مختلفة على “القصر في الغابة” (The castle in the forest)، أحدث رواياته حيث يندسّ “متسلّلاً” الى أسرة هتلر.
    اعتاد مايلر التباين الصارخ في ردود فعل النقاد على أعماله، فهؤلاء لم يحدث أن أجمعوا عليه إلا مرّة واحدة، كان ذلك منذ زمن بعيد حين هلّلوا لباكورته “العاري والميت”. وقد جرّب منظّر “الثقافة المضادة” الصحافة والأدب وكتابة السيناريو والمسرح والإخراج السينمائي، ونقّب في مصر الفراعنة، وفي حياة مارلين مونرو وبيكاسو ولي هارفي أوزوالد (قاتل الرئيس كندي) ليصل الى المسيح في “الإنجيل حسب الإبن”، ثم الى الفتى أدولف أو “آدي” قبل أن يصبح هتلر ذلك “الوحش” الذي نعرف حسب تعبيره. الرواية الأخيرة التي يعود معها بعد أن التجأ في الصمت عقداً كاملاً، راودته فكرتها طويلاً... ربّما منذ استحوذ الفوهرر على ذهنه وهو لم يبارح التاسعة. ويؤكد الكاتب، المقتنع منذ “لماذا نحن في فيتنام” (1967) بأنّ آلهة صغيرة وأنصاف آلهة “يُسقِطون علينا وحيَ الكتابة”، أنّ “ملهمته” مدّت اصبعها لتدلّه ــ هذه المرة أيضاً ــ على السبيل الى “كتاب ينتظره”.
    طفل مُعنَّف وكسول
    تبدأ رواية “القصر في الغابة” (راندوم هاوس ــ 2007) من جذور هتلر العائليّة: أمّ تفقد أولادها الثلاثة، فتضع كل آمالها في رابعهم، أدولف، الى أن تنجب غيره. والد يتنقّل من علاقة الى أخرى. وبينهما، يقف آدي المُعنَّف والكسول الذي يتقن الألعاب الحربيّة، ويغار من أخيه، ويبدو واثقاً، في قرارة نفسه، من أنّه سيصبح رجلاً مهمّاً!
    تُسرد الأحداث على لسان دي. تي. ضابط في القوات النازية الخاصة يؤكد حضوره ولادة هتلر في 20 نيسان (ابريل) 1889، وقربه من عائلته ومن تفاصيلها الحميمة. لكنّنا لا نلبث أن نكتشف أنّ الراوي هو مساعد الشيطان الذي أوكله مهمة صقل شخصيّة هتلر. منذ سقوط الرايخ الثالث، يعيش دي. تي. (تصغير للإسم الألماني دايتر) في منفاه في الولايات المتّحدة الأميركية، تلك “الأمّة الغريبة”. يحللّ على نحو واع أصول “الفوهرر”، يتأمّل في نسب يلطّخه سفاح القربى. إذ إنّ والدة هتلر هي في الواقع ابنة أبيه. وهنا يقترب مايلر من موضوعاته الأثيرة، داخلاً إلى عوالم الجريمة وألغازها، والانتحار وسفاح القربى والعربدة والنشوة و... مرور الوقت.
    تقوم “القصر في الغابة” على مقاربة مفاجئة للصراع بين الخير والشــــــــــــرّ الملازم للطبيعة البشريّة، وتقدّم قــــــــــــــــــراءة فــــــــــــــرويدية لتطوّر هتلر خلال سنواته التأسيسية. وإضافة الى مؤسس علم النفس التحليلي، استعان نورمان مايلر بالفيلسوف الألماني نيتشه، وساعدته بطلة تولستوي “أنّا كارينينا” أيضاً في رحلته الاســـــــــــتقصائيّة التي توصّل فيها إلى أن حبّ هتلر لأمه وكرهه لأبيه، أيقــــــــــــظا تـــــــــعاطفه مع الشيطان. لا يهجر الراوي هتلر المراهق إلا وقد ترسّخـــــــــــــــت لديه القناعة بضرورة محو بعض المخـــــــــــلوقات لتستمر أخرى، وبعدما أنبأته أخت آدي بأن الاحتمالات شــــــــــبه معدومة في أن يصبح “شخصاً صالحاً”.
    ترف التخيّل
    قصة هتلر في منظار مايلر، سيرة غير تقليدية تكتنفها تفاصيل مُثيرة، يلوّنها البعد البحثي وتتجلى فيها عاديّة الشرّ. يتساءل القارئ ما الذي دفع ذلك الطفل التائق لمحبّة أهله إلى ارتكاب أمور فظيعة. قد لا يكون الجمع بين هتلر والشيطان جديداً، إذ سبق لمؤرّخين وكتّاب أن ربطوا بين النازيّة والطقوس الباطنيّة وحتى الشيطانية، لكنّ مقاربة مايلر “المجنونة والصادمة” باعترافه، تتخذ هنا بعداً جمالياً وفكريّاً خاصاً. تبدو رواية “القصر في الغابة” أكثر من دراسة فضولية لشخصيّة فريدة. إذ تتمتّع بترف التخيّل، مع أنّ السؤال عن موقع التفاصيل المبتكرة في الرواية مشروع تماماً. بُنيت الرواية على وقائع قد تقود الى الحقيقة، لكنها وقائع تحتمل التأويل... ولا سيما في ما يتعلق بسفاح القربى في عائلة هتلر التي يصرّ مايلر على أرجحيته.
    مايلر الذي اقتحم عالم الأدب في السادسة والعشرين، يعترف بأنّ الرواية هي حبّه الأول. حاول من خلالها أن يقتفي أثر دوستويفسكي أو فلوبير... لكنّ التكريم الحقيقي حازه على نشاطاته في عالم الصحافة لا الأدب. إذ فاز بجائزة “بوليتزر” مرّتين: الأولى (1968) عن كتابه “جيوش الليل” حيث يستعيد التظاهرات الاحتجاجية على حرب فيتنام في واشنطن الستينيات وقد ذاق خلالها طعم الاعتقال، والثانية عن “أغنية الجلّاد” (1980) الذي يدور حول غاري غيلمور الذي أعدم في الولايات المتحدة أواخر السبعينيات، مدشّناً عودة حكم الإعدام إلى بلاد العمّ سام بعد انقطاع عشر سنوات.
    يصف مايلر نفسه بـ“المُحافظ اليساري”، ويكتب عن بلاده كأنه مهاجر إليها، أو أسير نظرة مثاليّة، رومانسيّة، إليها. لقد أدرك الرجل باكراً أنّ الحلم الأميركي بلقاء “الآخر” أمسى كابوساً أميركياً، هو الذي ترشّح لمنصب عمدة نيويورك في عام 1969، مقترحاً فصلها عن باقي الولايات المتحدة!
    في روايته الجديدة “القصر في الغابة”، يوجّه مايلر صفعةً إلى الرئيس بوش الذي يعتبره منافساً لرونالد ريغان في الجهل. إذ إنّه يشير على لسان مساعد الشيطان دي. تي. إلى قادة “اكتسبوا مناعةً قصوى فلا تؤرقهم الضحايا التي يوقعونها في الخندق الآخر... لا تزال الوطنية أنجع الوسائل لتحريك الجموع... إننا نحبّ المتطرفين، سيتطوّر إيمانهم ليصبح سلاح الدمار الشامل النهائي”. هذه الصفعة المواربة لبوش، سبقتها كتابات صريحة ندّد فيها مايلر بالحرب على العراق. وهاجم بوش الذي حكم بالانحطاط على الثقافة الأميركية. كتب مايلر أخيراً في الـ«إنديبندنت»: “لقد بقي الشعب البريطاني متماسكاً بعد سقوط أمبراطوريته، إذ كان لديه شكسبير، وكانت لديه تقاليد عريقة قائمة على آداب الكلام وحبّ اللغة. لكن عندما يكون لديك زعيم يطلق شعارات سخيفة وسطحية، فإنه لا يفعل سوى تبليد ذهن شعبه. تلك هي خطيئة بوش العظمى، أعظم من حربه على العراق. بسببه، أصبح الشعب الأميركي أكثر حماقةً الآن” (2 شباط/ فبراير 2007).
    هذا هو نورمان مايلر الحقيقي: مزعج على كلّ الجبهات. يروق له أن تثير كتبه المتاعب، ويسأل ببراءة مفتعلة عن فائدة الكاتب إذا لم يكن قادراً على إزعاج أكبر قدر ممكن من الناس. لعلّها المهمّة التي سيتنطّح لها في روايته المقبلة، إذ يذهب من خلالها إلى لقاء يقدّم فيه “زبوناً” جديداً للشيطان، ليس سوى... راسبوتين!