مهى زراقط
عرض تلفزيون «المستقبل» في الأيام الماضية شريطين وثائقيين. الأول فرنسي بعنوان «من قتل رفيق الحريري؟»، والثاني لبناني هو «حرب السلام». المقارنة بين التجربتين تطرح السؤال: أين ينتهي «الفيلم الوثائقي»... لتبدأ البروباغندا؟
حسناً فعل تلفزيون “المستقبل” عندما أدرج “حرب السلام: أصوات من لبنان” الذي عرضه في اليومين الماضيين في خانة الفيلم “الوثائقي”. قبل ذلك بيوم واحد، كان المشاهد يتساءل عن التعريف الجديد لـ“الوثائقي” الذي انطلق منه معدّا الفيلم الفرنسي: “من قتل رفيق الحريري؟”، وبثّ على الشاشة نفسها.
بداية، لا بدّ من الاعتراف بأن أي نوع من المقارنة بين العملين سيكون ظالماً للفيلم اللبناني “حرب السلام”. لكن المقارنة تفرض نفسها، لأن العملين يحملان هوية واحدة هي “الوثائقي”، ولأنهما عُرضا على الشاشة نفسها، ما يجعلنا نفترض أن المرجعية التي قوّمتهما ووافقت على بثهما، واحدة.
لا يوجد الكثير لنقوله عن “حرب السلام” الذي أعدّته ديانا مقلد بمهنية عالية، وأخرجه هادي زكاك بحس فني راق. وهو يعرض واقع الشباب اللبناني المنقسم، وارتباط غالبية هذه الفئة العمرية بالطائفة والزعيم. وهنا، لا تبرز المهنية عبر تنوّع الآراء فحسب، بل بترابط المحاور كافة، إذ بدت ظاهرة من دون إعلانها. ولا بدّ من الإشارة إلى اللقطات الفنية والموسيقى التصويرية... كلها عوامل جعلت من “حرب السلام” الذي أنتجته “غلف تراند” فيلماً مميّزاً يحاول أن يضع الإصبع على الجرح.
لكن الأمر مختلف تماماً بالنسبة إلى الفيلم الفرنسي “?Qui a Tué Rafic Hariri” الذي أعدّه الصحافي الفرنسي المعروف برنار دولا فيلارديار، وأخرجته أمل دي زيسار لمصلحة شركة Ligne de Front (التي يملكها دولا فيلارديار).
يوحي العنوان بأن الفيلم سيقدم للمشاهد رؤية متكاملة عن جريمة الاغتيال. ونفترض أنه وضع خطة للشريط، سيحاول من خلالها الإجابة عن عدد من الأسئلة، بينها على الأقل عرض مختلف الاحتمالات التي برزت بعد اغتيال الرئيس الحريري. ثم تشريحها من خلال معلومات توثيقية تشرح علاقة الرئيس الحريري بكل من الأفراد أو المؤسسات أو الدول التي قد يكون لها مصلحة في اغتياله.
لكن المعدّين ارتأيا غير ذلك، فاعتمدا على إثارة المشاعر، والتضليل وتحريف التاريخ أحياناً لتمرير رسالة سياسية واحدة تحمّل النظام السوري مسؤولية الجريمة. وأغفلا عدداً من المحطات التاريخية والأحداث التي كان يمكنها أن تدعم وجهة نظر الفيلم نفسه.
يبدأ “من قتل رفيق الحريري؟” بلقطات مؤثرة للرئيس الحريري في يومه الأخير في المجلس النيابي، من مقهى “ساحة النجمة”، وصولاً إلى انفجار الموكب الذي ترافق مع صور لأشخاص يجرون اتصالات هاتفية. ونستمع إلى روايات شهود عن الحادث أغربها رواية زوجة أحد مرافقي الحريري الذين استشهدوا معه، وفيها كيف حاول زوجها تفادي سيارة “الميتسوبيشي”، من دون أن يخبرنا الفيلم كيف عرفت الزوجة هذا التفصيل... بعدها، تظهر صور متلاحقة من المستشفى ومسيرة التشييع، تزامناً مع بدء ظهور الشخصيات التي سيعتمد عليها الفيلم لنسج الرواية: مروان حمادة، وليد جنبلاط، سعد الحريري، غسان سلامة، عبد الحليم خدام، فارس خشان. وكلهم ينتمون إلى جهة سياسية واحدة.
وفي إطار التعريف بشخصية الحريري وعلاقاته الدولية ودوره في إعادة إعمار لبنان، يبدأ “الإبداع” الفرنسي: أرّخ الفيلم بداية الحرب اللبنانية عام 1976، أي مع دخول “الجيش السوري إلى لبنان الذي قاتل المسلمين ثم الفلسطينيين ثم المسيحيين” و... انتهت الحرب. هكذا ببساطة اختصرت الحرب التي سقط فيها 150 ألف شهيد وفق الترجمة العربية أسفل الشاشة، و250 ألفاً وفق صوت المعلّق باللغة الفرنسية.
ثم تغيب الأرقام، (وهنا يبدو واضحاً غياب البحث الأرشيفي)، ونستمع إلى جمل فضفاضة مثل القول إن عملية إعادة الإعمار بدأت في التسعينيات (لا تاريخ محدداً)، أو إن الرئيس الحريري فاز في الانتخابات النيابية مرات عدة (وهما مرتان)، وأنه كُلّف برئاسة الحكومة أربع مرات حسب التعليق الفرنسي، فيما صححت الترجمة العربية المعلومة، وكتبت أنها كانت خمس. ولم يُذكر الشهيد جورج حاوي في جملة الشخصيات التي اغتيلت بعد 14 شباط 2005. ولم تتم العودة إلى محاولات سابقة لاغتيال الحريري أو للرسائل “السياسية” التي كان يتلقاها، ومنها مثلاً استهداف “المستقبل” بصاروخين.
وحدها الوصاية السورية هي محور المقابلات، والاتهام يتكرر: “بشار الأسد هو القاتل. هذا النظام هو الذي يرتكب هذه الأمور. بشار الأسد هدد والدي”. كل ذلك في ظل غياب للرأي الآخر... حتى نصل إلى تقرير المحقق الدولي ديتليف ميليس (في ظل غياب أي إشارة إلى المحقق البلجيكي سيرج براميرتس) وسجن الجنرالات الأربعة. عندها، نستمع إلى سمر علي الحاج، وهي تتحدث عن لحظة اعتقال زوجها. أما المحاميان ناجي البستاني وأكرم عازوري فتحدثا، فقط، عن عدم وجود أدلة تثبت تورط موكليهما. ويقتصر رأي “المتهم” بشار الأسد على ما كان أدلى به لمحطة “سي إن إن” في غياب أي مقابلة أجراها الفيلم مع أي طرف سوري.
إلا أن هذا الطرف الآخر لم يكن غائباً تماماً، نراه في الصور: حين يقول الوزير مروان حمادة في لحظة تأثر “إنهم كانوا يكرهونه” نشاهد صورتي الوزيرين السابقين طلال أرسلان وسليمان فرنجية. أما صورة الأمين العام لـ“حزب الله”، فتظهر خلال الحديث عن تسلم بشار الأسد السلطة بعد وفاة والده، وذهاب السيد حسن نصر الله لتهنئته.
من نافل القول إن لـ“الفيلم الوثائقي” قواعد وأصولاً ومقوّمات مهنيّة... فإلى أي مدى ينطبق هذا التصنيف على شريط برنار دولا فيلارديار، هو المعروف بتحقيقاته الرصينة على محطّة M6 الفرنسيّة؟ وما هي الحدود الفاصلة بين “الفيلم الوثائقي” والبروباغندا السهلة في «من قتل رفيق الحريري؟»؟ أليس في تحويل الاستسهال والنقص في الأمانة إلى قاعدة، مساهمة في اغتيال هذا النوع الفني ــ الإعلامي على “المستقبل”؟
يذكر أن “المستقبل” التي تعرض هذا المساء برنامجين آخرين هما الوثائقي “رفيق بيروت” (إعداد منير الحافي) و«رفيق العمر” (مع ريكاردو كرم)، كانت قد بثّت الفيلم الفرنسي بعد نشرة الأخبار المسائية أي في وقت الذروة (يعاد عرضه هذا المساء)، فيما عرض “حرب السلام” بجزءيه، قبل النشرة المسائية.

“رفيق بيروت”: 18:30 على “المستقبل” وأيضاً: -“من قتل رفيق الحريري”: 19:00 - “رفيق العمر”: 20:30