حسين بن حمزة
  • «كأنها نائمة» تدوّن حكاية موتها الجميل

    بعد «باب الشمس» (1998) و«يالو» (2002)، يعود إلياس خوري في ملحمة سرديّة جديدة بعنوان «كأنها نائمة» («دار الآداب»). ينسج الكاتب اللبناني أحداث روايته على مساحة حكائية واسعة ومتعددة الطبقات، عشيّة النكبة، بين يافا والناصرة وبيروت

    إذا كانت شهرزاد قد روت الحكايات في ألف ليلة وليلة لتأجيل موتها، فإن ميليا بطلة رواية الياس خوري الجديدة “كأنها نائمة” (دار الآداب)، ترى المنامات وترويها. الفارق أنّ المنامات لا تنقذ ميليا، بل إنها ترى في نهاية الرواية المنام الذي تموت فيه من دون أن ترى مولودها الأول. وإذا كان عنوان الرواية هو كناية عن موت ميليا التي تبدو في هيئة النائمة، فإن الصفة الأساسية لميليا هي في كونها تقضي جزءاً كبيراً من حياتها في الرواية وهي شبه نائمة، فعلاوة على رؤيتها لمنامات كثيرة، نراها متظاهرة بالنوم أو “كأنها نائمة” بحسب العنوان، كلما أقام زوجها، منصور، علاقة جسدية معها.
    الواقع أنّ حياة ميليا كلها تكاد تكون سرية أو مستترة وغير معلنة. إنها الجانب الخافت والخجول والصامت مقارنةً بزوجها الصاخب والمقبل على الحياة ولذاتها. هذا ما يحوّل الرواية نفسها إلى حلم طويل بالنسبة الى القارئ أيضاً. ميليا تحلم، لكنّ أحداث الرواية وشخصياتها تدخل في هذا الحلم. ميليا ترى ما حدث وما سيحدث، وهذا ما يربط السرد نفسه بحركة هذه الأحلام. فالرواية تقوم على تأويلات ميليا لأحلامها الكثيرة، وهي التي تقود الراوي والمؤلف معاً.
    تبدأ الرواية من ليلة زواج ميليا اللبنانية ومنصور الفلسطيني القادم من الناصرة، وذهابهما إلى شتورة في عز البرد والثلج، حيث ينجح سائق السيارة، بصعوبة، في إيصالهما إلى فندق “مسابكي”، لنكتشف أنّ ميليا سبق لها أن رأت المشهد نفسه في منامها. ثم تسترجع وقائع سابقة على زواجها، تسرد شيئاً من طفولتها ومراهقتها، مازجةً ذلك بسيرة عائلتها البيروتية، شذرات ونتف من حياة أمها الأرملة وأشقائها الأربعة (آل شاهين). لكن منامات ميليا تتدخّل حتى في هذه الوقائع. والطريف أن ميليا تعيش حياتها وفقاً لإشارات أحلامها وتفسيراتها وتأويلاتها لهذه الأحلام. فهي، مثلاً، ترى في نومها خطيبها نجيب وهو يتزوج من امرأة سمينة. وحين تخبرها أمها لاحقاً بذلك، تستقبل الخبر بلا مبالاة، لأنها شاهدته قبل أن تسمع به. تتحكم الأحلام بميليا إلى درجة أنها تصنفها إلى ثلاثة أنواع: المنام السطحي والمسيّج والعميق. في النوعين الأولين، ترى ميليا ما يتعلق بالآخرين، وفي الثالث ترى نفسها وما يتصل بحياتها.
    تمتد رواية “كأنها نائمة” على مساحة حكائية واسعة ومتعددة الطبقات. وتمثل سنة 1947 بؤرة زمنية شديدة التأثير على مصير ميليا ومنصور، ففيها يموت شقيق منصور في يافا على يد اليهود، ويضطر لمغادرة الناصرة والإقامة في يافا لإدارة ورشة أخيه. وهذه اللحظة الزمنية تمثّل إطاراً عاماً للفترة التي تجري فيها أحداث الرواية عموماً. ولا بد من أن أي قارئ سينتبه إلى البيئة الجغرافية الواسعة للرواية. إذ لا يجد حدوداً أو حواجز تمنع انتقال بعض شخصياتها، فمنصور يحب ميليا خلال رحلاته المتكررة إلى بيروت، يتزوجها وينتقلان للعيش في الناصرة. وقبلها يذهب سليم شقيق ميليا الأكبر، للعيش في حلب. أما شقيقها موسى فيعمل لفترة في فندق على شاطئ بحيرة طبريا. الأرجح أن الجغرافيا الواسعة والمتعددة التي تدور فيها أحداث الرواية تذكّر القارئ بعوالم وجغرافيات لها مكانة خاصة ومؤثرة في عمل الياس خوري الروائي والفكري والسياسي أيضاً. القارئ يعلم حجم حضور فلسطين في المدونة السردية لإلياس خوري، هو الذي ذهب في شبابه المبكر إلى الأردن كي يلتحق بقواعد العمل الفدائي هناك، وهو الذي أنجز رواية “باب الشمس” (1998) التي أرّخت “التغريبة الفلسطينية” ورفعتها إلى مصاف التراجيديا الملحمية، وحصل بها على جائزة فلسطين الكبرى ثم تحولت إلى فيلم من توقيع المخرج المصري يسري نصر الله.
    بالكتابة والموقف الفكري، صنع الياس خوري لنفسه نسَباً فلسطينياً يكاد يساوي انتماءه اللبناني. لذا ليس غريباًً أن تتسلل دلالات هذا النسب وتظهر في أعماله. “كأنها نائمة” لا تنجو من هذا الحضور، فالرواية تنتهي والنكبة الفلسطينية على الأبواب، علاوة على أن منصور، أحد بطلي الرواية الرئيسيين، فلسطيني أصلاً. ومدن حلب والناصرة وبيروت تظهر منذ الصفحات الأولى للرواية. وإذا عدنا إلى روايته السابقة “يالو” (2002) نجد أنّ بطلها دانيال سرياني الأصل، تعود جذوره إلى مدينة القامشلي في أقصى الشمال الشرقي من سورية الحالية. والأرجح أنّ كل هذا يمنح كتابة الياس خوري طابعاً أو نكهة “نهضوية” مشرقية قد تقترب، في بعض تجلياتها البعيدة وغير المباشرة، من الفكرة السورية مثلما تخيلها أنطون سعادة، لكن بمعناها السردي والحكائي لا الأيديولوجي.
    وفي عودة إلى بنية “كأنها نائمة”، سيعثر القارئ على أنساق وطموحات وموضوعات سردية متداخلة، ويمكن في هذا المجال الإشارة إلى تداخل أو توازٍ بين غيبوبة يونس بطل رواية “باب الشمس” و“نوم” ميليا. في “باب الشمس” يتولى خليل سرد الحكاية، بينما تتولى أحلام ميليا رسم مصائر شخصيات “كأنها نائمة”.
    من جانب آخر، وبينما ميليا تحلم وتواصل حياتها في خفر وصمت بليغين، نجد أن منصور لا يكفّ عن تلاوة الشعر. فيبدو الأمر كأنّه مبارزة بين الأحلام والشعر. وغالباً ما يكون جمال ميليا وحب منصور لها سبباً في تذكّره لأبيات معيّنة تناسب الحدث. الرواية مليئة بأبيات، منتقاة بشغف واضح، للمتنبي وعنترة وأبي نواس وبشار بن برد وديك الجن وغيرهم. والواقع أن الشعر أيضاً يذكّرنا بشغف الياس خوري نفسه بالشعر وحفظه له، وليس بلا دلالة أنه أصدر ذات يوم كتاباً لافتاً بعنوان “دراسات في نقد الشعر” (1979).
    هناك أحداث وحكايات كثيرة في الرواية، عشق ميليا القصير لضابط فرنسي، علاقتها بنجيب ووديع الفران، مغامرات جدها مع مريم المصرية، موت أمها، حكاية جدتها حسيبة، علاقتها بأخوتها وخاصة موسى وابنه اسكندر الذي سيصبح صحافياً فيما بعد... معظم هذه الوقائع لا بد أن تمر في أحلام ميليا وتخيلاتها لكي تجد طريقاً إلى الرواية نفسها. ميليا تكتب الرواية بواسطة الأحلام، بل إنها تتسلل ذات مرة إلى منام شقيقها موسى.
    ميليا هي القاسم المشترك لأحداث الرواية وحيوات شخصياتها. ولا يخفى على القارئ أنّ الياس خوري يكشف عن انحياز سردي واضح إلى بطلته.
    بهذا المعنى، تبدو “كأنها نائمة” أشبه بنشيد حب طويل من روائي لبطلة روايته. إلى حدّ يليق به أن يكون عاشقاً لها لا مدوّن حكايتها الجميلة التي تنتهي بموتها.