strong> عبد الغني طليس
إنه عرض القوة، ذاك الذي تجريه دولة بأسلحتها المتطورة لإخافة دول أخرى أو للمباهاة، تحقيقاً لأهداف كبيرة. وهو عرض القوة، ذاك الذي يجريه بعض المغنين عبر التلاعب بطبقات أصواتهم العليا والدنيا لـ“إخافة” فنانين آخرين أو للمباهاة، تحقيقاً لأهداف معنوية مماثلة. وفي هاتين الحالتين، فإن عرض القوة يحتاج إلى تحضيرات ودروس عدة، لأن الخطأ فيها ممنوع. وهو إن حصل يكن أشبه بالفضحية المعلنة على رؤوس الأشهاد!
شهد التاريخ الغنائي العربي عرضاً للقوة مرّات عدة، عندما كان يلتقي مغنيان كبيران في حفلة، ويتشاركان أداء أغنية واحدة. عرفنا ذلك في لبنان مراراً. ولعلّ تلك الوقفة الغنائية بين الفنانين وديع الصافي وصباح في مسرحية “موسم العز” مطلع الستينيات من القرن الماضي خير دليل على قيمة لقاء صوتين قديرين في موقع غنائي واحد. وقد أنشد المغنيان الكبيران أكثر من موال في أكثر من مشهد مسرحي، وكانت مناسبة ليعرض كل منهما قدراته الصوتية في مواجهة الآخر، ولكن بطابع وديّ رقيق وعذب أنتج مشهداً رائعاً ظل يتردد صداه حتى اليوم. ثم كان اجتماعهما بعد ذلك في كل حفلة فنية مناسبة لـ“مبارزات” صوتية غنائية ممتعة، والمكتبة الفنية اللبنانية حافلة بذلك.
عرض القوة الصوتية هو تحدّ مع الذات ومع الآخر. وغالباً ما يعتمده الفنانون في بداية مشوارهم الاحترافي من أجل لفت الانتباه إلى مواهبهم. ومهما كان حجم الموهبة، فإن صاحبها يحاول “تمرير” عرض قوة في لحظة من اللحظات الغنائية أو في موقف من المواقف التي يجد فيها نفسه أمام امتحان مع فنان آخر أو مع الجمهور. ومن الجيل المؤسس إلى الجيل المخضرم، وصولاً إلى الجيل الجديد تنتقل هذه “اللعبة” الصعبة والطريفة في آن، لكنها قد تتحول اختباراً خطراً أحياناً... هذا ما حصل مثلاً مع المغنية الذهبية الصوت أصالة قبل سنوات قليلة، عندما وقفت على مسرح حفلة للمغني صابر الرباعي، وقد دعاها الأخير لمشاركته أداء أغنية “ع اللي جرى”، فأدت الاغنية معه على طبقة صوت الرباعي (الرجالية) لا على طبقة صوتها النسائي، فكانت تجربة باهرة، لكنها مليئة بالمطبات، لأن بعض الجمل الغنائية العالية جاءت أشبه “بالصراخ”. لكن ماذا تفعل أصالة، وقد وضعت على المحك؟
المغني وائل كفوري مثلاً، وهو المعروف بإتقانه أداء المواويل اللبنانية جيداً، اختار ليبرز قوة صوته في مرحلة معينة، أغنية تركية الأصل، لبننها تحت اسم “تبكي الطيور”. تتضمن الأغنية صعوداً صعباً إلى نوتة صوتية عالية جداً، وصل إليها وائل ببراعة. قيل يومها إن المغني رغب في تحدي بعض الذين اتهموه بتراجع قدراته الصوتية، فأنشد الأغنية التي قدمها أصلاً أحد أكبر الأصوات الغنائية في تركيا. وقد مارس فيها كفوري عرض القوة المطلوب، ونجح على رغم أن ثمة من سمع في تلك الجملة الغنائية شيئاً من “الصراخ”. وهذا طبيعي، لأن الصوت في حالة الارتفاع يغدو “رفيعاً” أكثر فأكثر، ما يقرّبه من جو الصراخ أكثر من جو الغناء.
إنه عرض القوة، القاسم المشترك بين الدول القوية والأصوات القوية. وإذا كانت الدول تقوم بمناورات حية بذخيرة بارود ونار حارقة، فإن الأصوات القوية تقوم بمناوراتها الحية بذخيرة حب وطرب. لكن الغريب أن بعض الأصوات الضعيفة تحاول أحياناً أن تدلي بدلوها في عرض القوة هذا، فتكون النتيجة... كوميديا سوداء!