بيار أبي صعب
«في ليلة من آذار» مقطوعة من خمس حركات لجسد وطبلة وصوت

ذراعان في الفضاء، ببطء تشكلان قوساً، ثم دائرة. بعد قليل ستنفضّان كل إلى جهة، كأنّهما لدمية مشلّعة. وحين تتشنّج اليدان، نفكّر بتلك النباتات الغريبة التي تعيش في الأراضي القاحلة. تميل خلود ياسين بجسدها جانبياً حتى الاختلال، تطويه إلى الخلف، كأقصى ما تسمح به قوانين التوازن. وبعدها تنحني به إلى الأمام، هبوطاً، ليلامس الأرض... فتبدو مثل محاربي القبائل الأفريقيّة البعيدة الذين يرقصون في شرايينها. نخالها تحيي طقساً وثنياً، عبادة غامضة لإله لا نعرفه جيّداً. لعلّه إله الحرب.
ترقص الفنّانة اللبنانيّة الشابة لتطرد الأرواح الشريرة، لتروّض قهراً جماعياً. كأنّها تسعى إلى مصالحة الجسد (الجماعي) مع آلامه، إلى تطهيره من الخوف والشحنات السلبيّة، وكل أشكال التروما التي تكبّله. تخفّفه من أوزار هي إرث الحرب الكامنة فينا... بكثير من الاقتصاد في الحركة، ترقص خلود، معتمدةً لغة كوريغرافيّة متقشّفة، لتوقف وحوش الحرب. هذا على الأقلّ ما يتبادر إلى ذهننا ونحن نشاهد عملها الخفيف والطازج «بْ لَيلي مِن آذار» (نصف ساعة تقريباً) الذي تقدّمه هذه الأيام في «مسرح مونو» البيروتي، بالاشتراك مع أخيها خالد ياسين أحد ألمع عازفي الإيقاع في لبنان وخارجه، والطرف الآخر في المعادلة الدقيقة التي يقوم عليها هذا الاحتفال الطقوسي.
خالد مع «الدربكّة» (أو الطبلة) على المنصّة الصغيرة. هذه المنصّة هي عمليّاً قاعدة المثلث الذي يتوزّع الجمهور (القليل) على ضلعيه، فيما مساحة العرض تمتدّ من المنصّة الصغيرة لتغطي رقعة المثلث كلّها... ظهره للجمهور في البداية، حين يعلن نبض العرض ببطء تصاعدي، «تَك، تَك، تَك»... قبل أن تدخل الـ «دُم» لتكسر رتابة تأمليّة بدأت تحاصر الحاضرين. ولا يلبث العازف أن يواجهنا في المَشاهد التالية، ثم يظهر بيننا في الجهة الأخرى عند رأس المثلث. إنّه شريك في الطقس الكوريغرافي القائم على حوار ثنائي الأبعاد. إيقاعات الطبلة تقابلها ايماءات الجسد وتردداته، انكساراته وانتفاضاته المفاجئة. «في ليلة من آذار/ مارس» عمل قائم على دويتو جسد وطبلة، أحدهما يسبق الآخر أو يرافقه، يجيبه أو يسأله، أو يعاكسه أيضاً.
والايقاع عنصر أساسي في عمل الأخوين ياسين. عنصر ممسرح يؤدي دوره في الفرجة، نتفرّج عليه بقدر ما نستمع إليه، ونتركه يخترق إحساسنا ويضبط الاحتفال. المسرحيّة أشبه بمقطوعة حركيّة لجسد ودربكّة وصوت. نعم هناك صوت، ملموس بقدر ما هو مجرّد... لا نعرف من أين يأتينا: من الغيب؟ من الذاكرة؟ من المخيّلة؟ من اللاوعي الجماعي؟ بين لوحة وأخرى، تهبط الستارة السوداء على الجمهور، ويجد كل مُشاهد نفسه وحيداً في الظلمة على احدى ضفّتي المثلّث، جالساً على مكعّبه غير المريح، معزولاً مع أشباحه وهواجسه وذكرياته. على أذنيه سماعتان توصلانه بالبعد الثالث: شيء ما يحدث في مكان ما... صوت، يتحدّث بنبرة مباشرة، عفويّة، بلغة كل يوم، عن رعبه من الأصوات، أصوات تشبه الانفجارات والقصف، والصواريخ... عن سكوت لا يستطيع نسيانه: ذلك السكوت القاتل بين انفجارين. صوت شاب يتكلّم مع اصدقائه على الهاتف، عن الانفجار الوشيك، يتنازل عن التاريخ، ليكتبه هذا المساء خلال سهرة مع حبيبته والبلاك (ويسكي) وبيلي هوليداي.
ما إن يستسلم المرء لتلك التداعيات الأليفة، حتى ينقطع الصوت، وترتفع الستارة من جديد، ونعود الى لعبة مواجهة مع الراقصة التي تتأرجح بين جمود وحركة، بين قسوة ورقّة وضحك. تارة نحن أمام رقص داخلي تأملي يسيطر على كل عضلة، يشتغل على الزمن، ويذكّر بتقاليد الـ butoh الياباني أو البريك دانس، وطوراً تشتعل الحلبة بخطوات سريعة وقفزات وإشارات تتمادى في الفضاء: إنّه التعبير الجسماني أو الأداء الخارجي الذي يحرّر الطاقات الكامنة. في كلتا الحالتين تتوجّه خلود ياسين مباشرة إلينا، تحاصرنا، تخاطبنا، تواجهنا، تكاد تعتدي علينا، قبل أن تستعيد حنوّها ورقّتها.
هذه الذئبة الجريح، نعرفها على الخشبة ـــــ تحديداً في عروض عمر راجح المسرحيّة الراقصة ـــــ كتلة من الأعصاب مشتعلة في أداء صاخب كثير الحركة والصراخ... كان ذلك أيّام «بيروت صفرا»، و«حرب على البلكون» و«استمناء ذهني». هناك تركناها، لنلتقيها اليوم (بعد صمت طال)، مقتصدة في الحركة، متقشّفة في التعبير، صامتة، تتحكّم بالانفعالات، تضبطها في الداخل، فلا يتسرّب منها سوى القليل، الكافي لاستفزاز مخيلتنا وتحريك الأسئلة المقموعة فينا.
«في لية من آذار» عمل يعيد أمجاد مسرح الجيب ومسرح المختبر الذي يتسع للتجريب والتواصل الحميم. يقترح علينا خالد وخلود («ثنائي خوخ») فسحة للتأمل، انطلاقاً من فضاء ديناميكي، يسيطر عليه الأزرق (سينوغرافيا فادي يني ترك). وإضاءة شفافة (بين أبيض القمر، وأصفر الشمس)، مسقطة عمودياً، مسلّطة أفقياً، أو محصورة في الأسفل، تخلق مناخات متعاقبة، وتحرّك الظلال على عمق البلكسيغلاس المضيء. فوق تلك الأرضيّة المجازيّة، أو لنقل داخل عيادة فرنكشتاين، أو المختبر المستعار من أفلام الخرافة العلميّة، يعيد خالد وخلود تشريح لعبة الحرب... مثل محاربي القبائل الأفريقيّة، يستعيدان تعويذة قديمة تبعد الشؤم، وتطرد الأرواح الشريرة التي تخيّم على عالمنا هذه الأيام.

«بْ لَيلي مِن آذار» ــــ خلود وخالد ياسين
حتى ١٨ ت٢ (أكتوبر) ـ مسرح مونو، (المسرح الصغير) كل يوم ما عدا الاثنين، السابعة والنصف مساءً. للحجز: 01/202422